بقلم: مفتاح شعيب – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – الخلاف الفرنسي البريطاني القائم بخصوص موضوع صيد الأسماك لن يكون أول أزمة تواجه البلدين في المستقبل بعد أن أصبح خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي أمراً واقعاً يحاول الجميع التعايش معه، لكن تظل في الخلفية العديد من نقاط التوتر والمشكلات التي ستنفجر تباعاً بين فترة وأخرى، أو هكذا يبين مسار العلاقة بين دولتين كانتا قبل قرن تتقاسمان السيطرة على العالم.
آخر المواقف تشير إلى أن باريس ولندن توصلتا إلى تهدئة قامت بموجبها السلطات الفرنسية بالإفراج عن سفينة بريطانية محتجزة. ولم تحجب الابتسامات الودية التي تبادلها الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء بوريس جونسون، غضباً وتوتراً كامناً في الكواليس والإعلام وحتى لدى الشارع السياسي في البلدين. ففي الفترة الأخيرة بدت التصريحات المعلنة من الطرفين عدائية وملغومة بالإشارات إلى بعض الذكريات السيئة والصراعات التي خاضها البلدان في الفضاء الأوروبي وفي القارات الخمس تقريباً. وربما لم تعد الظروف والتوازنات تسمح بتكرار معركة «الطرف الأغر» وحروب بحر المانش، إلا أن الإطار العام لن يكون مثالياً لبناء علاقة فرنسية بريطانية منسجمة وغير متنافسة في مجالات كثيرة. فلندن تريد أن تبني علاقات جديدة مع دول الاتحاد الأوروبي تحاول من ورائها أن تكون نداً للتكتل، بينما الواقع يكشف غير ذلك في ظل سيطرة المحور الفرنسي الألماني على القرارات السياسية والاقتصادية والأمنية في بروكسل.
الحديث عن تهديدات و«تدابير انتقامية» لم يكن مألوفاً في العلاقات بين باريس ولندن إلى وقت قريب، ولكن يبدو أن هذه اللغة ستصبح حاضرة في الخطاب الدبلوماسي الفرنسي البريطاني في ظل وجود قضايا عالقة أشبه بالقنابل الموقوتة وتتعلق بالسفر والشحن والاستثمارات والبحث، وبعض هذه القضايا محل مفاوضات بين الحكومة البريطانية والاتحاد الأوروبي في إطار تبعات «بريكست»، ومنها وضعية إيرلندا الشمالية. وإذا كان هناك من «تضخيم» لخلاف الصيد الأنجلو-فرنسي، فيعود إلى أن ملفات خلافية أخرى بصدد التشكل وستفرض على البلدين جولات من التوتر. وهذا التصعيد الملاحظ يؤشر على ذلك ويؤكده، وسيوسع على الأرجح الحرب التجارية المندلعة على ضفتي المانش، وسيجعل من باريس ولندن خصمين يستعيدان تاريخاً من التباين والتنافس، ربما تعمل بعض الأطراف في الجانبين وفي أطراف أخرى من العالم على إعادة إحيائه.
خلاف الصيد جاء مباشرة بعد «صفقة الغواصات» التي فجرت أزمة دبلوماسية غير مسبوقة بين باريس ولندن وواشنطن وكانبيرا، وهي عواصم متحالفة وبينها تاريخ مشترك وثوابت تؤمن بها. وما حصل مع تلك المعركة لم يكن مفاجئاً في السياق العام، فهذه الدول التي كانت في يوم ما تسير على نهج واحد تقريباً، أصبحت اليوم تبحث عن مواقع جديدة وتنشئ تحالفات متباينة، وهو ما يؤكد مرة أخرى أن العالم يتغير وتعيد المصالح والأقطاب والحسابات الضيقة رسم خريطته بما يتناسب مع المستجدات الجارية في كل القضايا والمجالات. وفي هذا السياق يمكن فهم أزمة الصيد بين فرنسا وبريطانيا، فهي ليست عابرة ولا تعبر عن ذاتها، وإنما تصور واقعاً مختلفاً سيفضي بالكثير من الأزمات والمفاجآت.