بقلم: أسامة رمضاني – النهار العربي
الشرق اليوم – تبدأ تونس عشرية جديدة في ظل منظومة سياسية فيها القديم وفيها الجديد. منظومة تواجه تحديات فيها أيضاً القديم وفيها الجديد.
تبدأ ما يبدو وكأنه فترة انتقالية جديدة، بعد فترة انتقالية سابقة دامت عشر سنوات من دون أن تيسّر الانتقال الكامل إلى المرحلة المنشودة في تاريخ تونس المستقلة.
من الإجحاف الزعم أن لا تغيير حصل منذ الموجة الاحتجاجية العارمة التي أطاحت النظام السابق سنة 2011. فمن الأكيد أن تونس خرجت من منظومة سياسية مبنية على مركزية القرار وسلطوية الحكم، ودخلت مرحلة جديدة مبنية على تنظيم جديد لا يعطي السطوة لسلطة واحدة، ولكنه كان يجعل الكلمة الفصل فعلياً للبرلمان الذي أقل ما يقال فيه إنه فشل في رهان قيادة البلاد إلى بر السلام. وتاهت معظم مكوّنات الطبقة السياسية في التفاصيل، بعدما تفاقمت حالة الانسداد السياسي والدستوري، ونسي الساسة أن تحسين أحوال الناس كان من المفروض أن يشكل أولوية عملهم وليس مراكمة الغنائم وتصفية الحسابات فما بينهم.
ضاعت الأولويات بسبب قصر نظر أصحاب القرار والماسكين بالسلطة. وكانت الخيبة الكبرى ليس فقط على صعيد الانتقال السياسي، بل على صعيد المسارات الانتقالية الأخرى الموازية للمسار السياسي، إذ لم يحدث الانتقال الاقتصادي والاجتماعي الكفيل بخلق ما يكفي من الثروة والإنتاج ومن مواطن الشغل التي تستجيب لطلبات الشباب العاطل من العمل، وتطلعات بقية شرائح المجتمع إلى مستوى معيشة أفضل. ولم يتطور منوال التنمية بما يحقق التوازن بين جهات البلاد والمساواة في الحظوظ بين جميع التونسيين والتونسيات.
تبقى التساؤلات كبيرة اليوم عن الأولويات الحقيقية في تونس، وعن قدرة الطبقة السياسية على ترك خلافاتها جانباً من أجل السعي إلى تحقيقها.
لا يزال اهتمام الطبقة السياسية، سواء منها النخبة الحاكمة أم الفئات المعارضة، مركزاً على مكانها في منظومة الحكم وعلى الشكل الذي يجب أن تأخذه هذه المنظومة. يرى الرئيس قيس سعيد وأنصاره أن المنظومة السياسية السابقة قد فشلت وحان الوقت لاستنباط بديل لها قبل الانطلاق في الإصلاحات الجوهرية اللازمة، فيما يرى الصف المقابل أن الحل في العودة بسرعة إلى المسار البرلماني واجتناب ما يراه خطر تجميع السلطات في يد واحدة. ولكن معظم المعارضين يقرون بأن العودة الى ما كان عليه الوضع قبل 25 تموز (يوليو)، تاريخ إعلان الرئيس أحكاماً استثنائية حل بمقتضاها البرلمان، أمر مستبعد جداً.
قد لا يكون هناك حل سوى الرجوع إلى الشعب، سواء عن طريق الاستفتاء أم تنظيم انتخابات أم كليهما. والأمل فقط في أن لا تطول مدة الحسم حتى تنكبّ البلاد على أولوياتها المرجأة، وحتى لا يملّ الناس أصوات خبراء القانون والمحللين السياسيين وهم يؤوّلون فصول الدستور فيما تتفاقم الأوضاع.
تحتاج تونس إلى التركيز على الأهداف التي ينبغي عليها تحقيقها خلال العشرية المقبلة، أكثر من تشريحها للعشرية التي خلت. وقديماً قال الحكماء إن الإنسان لا يستطيع قيادة سيارته بالنظر إلى المرآة الخلفية كل الوقت.
في الغرب هناك في المقابل اهتمام باستشراف المستقبل عندنا، ليس من أجل سواد أعيننا طبعاً، بل لأن انعدام الاستقرار في تونس ومنطقة شمال أفريقيا ككل، سوف يوفر تربة خصبة للهجرة غير الشرعية التي تخشاها أوروبا، ويؤجج خطر استقطاب الشباب إلى الحركات المتطرفة الذي يحذّر منه الغرب، إضافة إلى كون ارتباك الوضع الأمني وتدهور مؤشرات التنمية في المنطقة قد يعنيان تخصيص برامج إضافية للمساعدة (إن لم يكن التدخل) من أوروبا وأميركا.
مثل هذا الاهتمام أظهرته دراسة أصدرتها خلال الأيام الأخيرة مؤسسة أميركية هي “مؤسسة المجلس الأطلسي” (ذي أطلنطك كاونسل) للبحوث في واشنطن. سلّطت الدراسة الضوء على عوامل عدة سوف تحدد، بحسب رأي الخبراء، مستقبل بلدان المغرب العربي، ومن بينها تونس، خلال العقد المقبل.
هناك في تونس وبقية شمال أفريقيا ما يكفي من الخبراء القادرين على إصدار مثل هذه التقارير، ولكنها لن تلقى، مع الأسف، الاهتمام نفسه الذي يمكن أن يلقاه تقرير صادر في الولايات المتحدة.
المهم في الدراسة أنها تظهر خيطاً ناظماً بين تطور مجتمعات المنطقة من الماضي ونقاط الخلل فيه، إلى الحاضر وأزماته الراهنة، وصولاً إلى المستقبل الأفضل. هذا الخيط الناظم يربط بين مختلف مراحل المسار التراكمي للأخطاء التي ارتكبتها أنظمة الحكم بلا استثناء خلال العقود الأخيرة، وأدت إلى ما هي عليه الأمور اليوم.
تحتاج الطبقة السياسية في تونس رؤية شاملة، تأخذ بعين الاعتبار هذا المسار في سعيها الى ترميم أسس الدولة، وتحقيق انتقال فعلي على المسارات العالقة كافة.
تحدثت الدراسة الأميركية عن التطور الديموغرافي الذي مرت به بلاد مثل تونس بين 1980 و2010، وتضمن طفرة كبيرة على مستوى الشريحة الشبابية ضمن الهرم السكاني. وفيما استطاعت بلدان مثل كوريا الجنوبية استغلال هذه الطفرة الشبابية لتسريع نسق نموّها الاقتصادي، ساهم عجز السلطات التونسية في توفير مواطن الشغل الكافية للشباب المتخرج في الجامعات أو المنقطع عن التعليم في اندلاع شرارة الاحتجاجات التي أطاحت النظام سنة 2011. مرت عشر سنوات كاملة تفاقمت فيها معدلات البطالة والفقر وهجرة الأدمغة. لم تستطع تونس خلالها أن تتدارك مناطق الخلل التي كانت أدت إلى الانفجار السياسي والاجتماعي لسنة 2010 بل هي فاقمتها.
تقول دراسة “ذي أطلنطك كاونسل” إن تونس وبقية بلدان شمال أفريقيا سوف تواجه طفرة شبابية جديدة بداية من 2025، وعليها أن تستعد لها بتشريك الشباب في الحياة الاجتماعية والسياسية، وكذلك بتطوير مناهج التعليم والتدريب المهني على أساس مواكبة التكنولوجيات الحديثة وتحرير المبادرة الخاصة، وهي عوامل من شأنها توظيف طاقات الشباب من أجل النهوض بالاقتصاد ودفع مسار التنمية، وكذلك، في نهاية المطاف، ضمان نجاح التجربة الديموقراطية نفسها.
ليس هناك في الملاحظات الواردة في الدراسة الأميركية ما يخفى على الساسة والخبراء في تونس وبقية المنطقة. والكل يعرف أنه كان بإمكان الحكومات المتعاقبة في تونس، على مدى عشر سنوات، أن تترك السرديات الشعبوية والشعارات الفارغة المحتوى والممارسات الأنانية الجشعة، من أجل تحرير مبادرات الشباب وإطلاق التكنولوجيات الحديثة كبديل للبيروقراطية الجاثمة على الصدور.
كان من الممكن أن تستقطب كفاءات البلاد قبل أن تستقطبها الدول الأجنبية الساهرة على مصالح شعوبها. كان بإمكانها أن تخلق ما يكفي من الأمل عند الناس، بما يكبح جماح الهجرة غير الشرعية. كان من الممكن أن تستوعب هذه الحكومات الأولويات الحقيقية لو أنها شاءت، ولكنها لم تفعل.
الرهان اليوم أن تشكل التحديات المطروحة أولويات المرحلة لأصحاب السلطة خلال السنوات المقبلة.
قد تكون هناك شروط ظرفية لا بد من استيفائها قبل البدء في مرحلة البناء، بما في ذلك استخلاص الدروس من التجارب السابقة.
لكن الأهم هو الانطلاق في أقرب الآجال نحو إنجاز مختلف المسارات الانتقالية المترابطة، على أساس الأولويات التي تفرض نفسها بإلحاح بالنسبة الى الفترة المقبلة.
لا يزال هناك هامش للإصلاح والبناء إذا توفرت العزيمة، واقتنع الجميع بأن أولويات البلاد أهم من الأولويات الفئوية والحزبية. ولكنه هامش غير كبير ولن يتضمن، في كل حال من الأحوال، عشر سنوات إضافية يمكن إضاعتها في مسارات انتقالية أخرى لا تنتهي.