بقلم: محمد المحمود – موقع الحرة
الشرق اليوم- كان مقالي في الأسبوع الماضي عن المفكر العربي الكبير، حسن حنفي، بمناسبة وفاته. وكان المقال، بمضمونه العام، مجرد تنبيه عابر على مكانته الاعتبارية في سياق الفكر العربي الحديث، وعلى أهمية تراثه للقراء العرب؛ بغية استثماره في قراءات متجدّدة تدعم مسيرة التنوير العربي. غير أنه، من طرف آخر، كان نوعا من “الرثاء الموضوعي” اليائس لحال الفكر العربي في صورة “رثاء وجداني” غاضبٍ لأحد رموزه الكبار الذين وهبوه رحيق حياتهم؛ فلم يكن حظه من أبناء هذا الفكر في هذه الثقافة العربية، إلا قليلا من الإشادات العابرة من بعض ذوي الهَمّ المعرفي والاهتمام الثقافي، بينما عموم الأمة المعنية بهذه الثقافة لا يكادون يعرفونه من الأساس !
في هذا المقال، لن أقف بالقارئ، ولا بنفسي، في خيار بين الفكر والمعرفة والعلم من جهة، والرياضة (التي يمثل “محمد صلاح” هنا/ عربيا رمزها الأشد سطوعا)، من جهة أخرى. ورغم انحيازي الشديد، بل المطلق، للجبهة الأولى من حيث أصل الموقف؛ إلا أنني أقرر أن لا خيار، في هذه المقاربة، بين سياقين مختلفين تماما. فالمسألة هنا هي مجرد قراءة خارجية في مشهد الاهتمام الجماهيري، وما يتبعه ذلك من دعم حقيقي لهذا الاتجاه أو ذاك الاتجاه.
عندما اخترت المفكر القدير، حسن حنفي، بمناسبة وفاته، اخترت المقابل له، لاعب كرة القدم، محمد صلاح، عن قصد، كونهما من جنسية عربية واحدة: مصريان. فلو كان أحدهم من هذا البلد العربي، والآخر من بلد عربي آخر مختلف؛ لربما (وفي سياق الحساسية العربية المفرطة، المَرَضيّة) قرأها أحد الفريقين (فريق المعرفة أو فريق الرياضة) بوصفها انتقاصا أو تهوينا بدافع من اختلاف الانتماء القطري. أما وكلاهما مصري، فأنت ـ من وجهة نظر القارئ المتربص بثنائية الفهم الإقصائي: مع أو ضد، بالضرورة محايد، أي ستكون منتصرا لمصر على كل حال، ومصر تستحق الانتصار لها على كل حال.
عاش حسن حنفي ـ رحمه الله ـ 86 عاما، لم يسمع به إلا صعاليكُ الفكر والثقافة، وهم القلة القليلة الضعيفة المستضعفة في عامنا العربي. الأغلبية الساحقة من العرب، بما في ذلك المتعلمون والمُعلّمون، بل وكثير من أساتذة الجامعات، لم يسمعوا بحنفي، وأكثر من سمع عنه، أو سمع منه ـ ذات لقاء تلفزيوني عابر ـ لم يقرأ له، وأكثر مَن قرأ له؛ لم يقرأ له إلا القليل. بينما الأغلبية الساحقة من عموم العرب يحملون صلاح في قلوبهم صورا وذكريات ومشاهد، ويُتَابعون منجَزَه الرياضي بشغف يصل حد العشق المجنون أحيانا.
حتى أولئك الذين لا يعرفون عن كرة القدم شيئا، ولم يشاهدوا مباراة كرة قدم قط في حياتهم (من أمثالي !)، عرفوا صلاح بقوة حضوره الإعلامي الطاغي، عرفوه رغما عنهم، إذ كل شيء يضع كرة القدم على مرمى متابعتهم الإعلامية العامة، فتتسرب إلى معرفتهم الخطوط العامة لمسيرته، حتى وإن حاولوا تجاهلها تماما، حيث أن قنابلها الإعلامية المُدوّية ستصيبهم بشظاياها من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
إن صلاح ـ بمنجزه الرياضي/ بمهارة اللعب التي لا تتجاوز بضع سنوات ـ بات يجني ملايين الدولارات شهريا، بينما حنفي، وفي سنوات إنجاز معرفي ثقافي تُناهز الستين عاما، لم يجن من كل ما قرأ وكتب ودرّس وحاضر وحاور؛ إلا الفقر الحرمان والإهمال؛ مقارنة بما حظي ـ ويحظى به ـ صلاح.
صلاح يعرفه الصغار والكبار، الأثرياء والفقراء، الرؤساء والغفراء، الجادون واللاّهون، العقلاء والمجانين، النبلاء والأنذال، الأنقياء والخبثاء، الصلحاء والمجرمون…إلخ، وكل هؤلاء يبتهجون لرؤيته، ويسعدون بلقائه، بينما حسن حنفي لا يعرفه أحد، إلا أقل القليل من أولئك القابضين على جمرة المعرفة غرباء أشقياء، حنفي عاش أكثر من ثمانين عاما لا يسعد برؤيته ولا يفرح بلقائه إلا من أدركته حرفة الأدب، أو مَن يقتات على الاستثمار الإعلامي في بؤس هؤلاء المفكرين الباحثين المنبوذين خارج أسوار الحياة.
طبعا، ليس اللاعب القدير، محمد صلاح، هنا مقصودا بذاته، وإنما هو نموذج مثالي لما هو واقع في عالم الرياضة، بل ولما هو واقع في عالم الفن أيضا. فبعض نجوم السينما، (حتى في عالمنا العربي الفقير فنيا)، يحصل فنان ناشئ ـ حالفه الحظ ذات فِلْمٍ تهريجي واحد ـ على ما لم يحصل عليه أهم وأكبر عشرة مفكرين عرب طوال حياتهم، بما في ذلك كل الجوائز التي حصلوا عليها، أو تلك حلموا ـ ذات تفاؤل حالم ـ بالحصول عليها !
يقول الأديب المصري الكبير، توفيق الحكيم، وهو المعروف بكونه كارها لكرة القدم: لقد انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم؛ يأخذ اللاعب في سنة واحدة ما لا يأخذه كل أدباء مصر من أيام أخناتون حتى الآن. وفي ظني أن الحقيقة أشد إيلاما مما قاله الحكيم هنا، فاللاعب يأخذ في ساعة ونصف مباراة واحدة، ما لم يأخذه كل أدباء العالم العربي.
إن التفاوت بين مداخيل نجوم الرياضة ونجوم الفن من جهة، والأدباء والمفكرون من جهة أخرى، هي حالة طبيعية مشروطة بمستوى الجماهيرية التي يتوفر عليها هؤلاء وأولئك. ومن هنا فهي ليست حالة عربية خاصة، بل حالة إنسانية عامة، وراسخة الجذور، حالة موجودة منذ فجر التاريخ وإلى اليوم، وعلى امتداد العالم. لكن، ما ليس طبيعيا، هو هذا الفرق الهائل بين عالمين مرتبطين بواقعنا: عالم اللهو واللعب وعالم الجد والعمل.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فما ليس طبيعيا أيضا، هو الفرق بين حال المفكرين والأدباء في العالم المتقدم، وحالهم في العالم العربي. في العالم العربي، لا يوجد مفكر أو أديب يعيش من قلمه ولو في حدود الكفاف؛ فضلا عن أن يوفر له قلمه الكفاية، فضلا عن أن يكون سببا للثراء المتواضع؛ كما هو الحال في العالم المتقدم الذي أصبحت فيه الكتابة الفكرية والأدبية صناعة متعددة الأبعاد. وبالتالي، فهي إن لم تضمن الثراء النسبي، فعلى الأقل تضمن لفاعلها الثقافي حد الكفاية الأدنى الذي يصون له كرامته، ويحفظ له استقلاله الذي يجعل لكلمته معنى.
لا يوجد مفكر ولا أديب عربي إلا وهو عالق بسبب يَعتاش من ورائه، إما وظيفة في البلدان التي تكفل فيها الوظائف شيئا ذا بال، وإما أجيرا ثقافيا يبيع قلمه في سوق نخاسة الفكر والأدب. حتى كبار أدباء العرب ومفكريهم عاشوا فقراء بكل معنى الكلمة، بما في ذلك عملاق الرواية العربية، نجيب محفوظ، قبل حصوله على نوبل. بل لقد كادت الحاجة أن تقضي على أديب نوبل، محفوظ، في بداياته، إذ يقول عن نفسه ـ كما ينقل عنه رجاء النقاش ـ أنه اشتغل حينا من الدهر عن الأدب الذي لم يجن منه شيئا، بكتابة السيناريو لبعض الأفلام، وأن هذه الكتابة بدأت تُدِرّ عليه من المال أضعافَ ما يجنيه من وظيفته الحكومية المتواضعة، مما جعله ينخرط فيها بقوة؛ مبتعدا عن عالم الأدب/ عالم الكتابة الروائية؛ حتى يقول عن نفسه متذكرا تلك المرحلة: ظننت أني انتهيت كأديب. هكذا كاد أن ينتهي، ولم ينقذه من ذلك إلا إحساسه بخطر هذا الاستدراج ـ المغري ماديا ـ على موهبته الأدبية، وهو الإحساس الذي جعله يعتزل هذا النوع من الكتابة المبتذلة العابرة؛ لصالح الكتابة الأدبية الخالدة التي منحته نوبل في نهاية المطاف.
لقد عانى الأدباء والمفكرون الأصلاء على مَرّ العصور العربية من هذا الوضع المربك لاهتماماتهم، والمُهدِّد لمواهبهم. فالجاحظ، أديب العربية الأكبر، كان ـ لفقره ـ يستأجر محلات بيع الكتب ليلا، ليقرأ فيها وينسخ منها، في الوقت الذي كان فيه المُغنّي الشهير، إسحاق الموصلي، يبني القصور ببغداد، ويخدمه العشرات من الرقيق والجواري، ويحيا حياة البذخ والخيلاء من عطايا الخلفاء.
بل إن الجاحظ الثاني (وهو لقب أبو حيان التوحيدي) يذكر عن نفسه أنه أكل أوراق الشجر من الفقر، حتى وصل به الأمر، في نهاية حياته، إلى إحراق كتبه ومؤلفاته التي تصور أنها هي سبب شقائه في عالم يسعد فيه الأغبياء وينعم فيه الجهلاء. يقول المؤرخ الأدبي، ياقوت الحموي، عن أبي حيان التوحيدي: “وهو مع ذلك فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ومكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية. وكان مع ذلك محدودا مُحارَفاً، يتشكى حُرْفَ زمانه، ويبكي في تصانيفه على حرمانه” (معجم الأدباء 6 ص15).
لقد اشتهرت هذه الحال، ملازمة الفقر والحرمان، للأدباء الكبار؛ حتى ظهرت المقولة المأثورة: “أدركته حرفة الأدب” في التراث العربي؛ تُقال لمن أدركه الفقر والحرمان، وكأن هذا البؤس أصبح حظا ملازما للأدباء.
يقول أبو تمام:
إذا عُنيتُ لشَأوٍ خِلت أنيَ قد أدركْـتُه، أدركتني حرفة الأدب
ويقول دعبل الخزاعي:
لقد علمت وما لي ما أعيش به أن التي أدركتني حرفة الأدب
وعندما بُويع الأديب والشاعر الكبير، ابن المعتز، بالخلافة، لم ينعم بالخلافة إلا يوما واحدا، ثم قُتِل في اليوم الثاني، فرثاه ابن بسام قائلا:
ما فيه لوٌّ ولا ليتٌ فَتنقُصه وإنما أدركته حرفة الأدب
والمعنى أنه لم يكن فيه عيب يمنعه من الاستمرار كخليفة، إلا كونه أديبا، وبما أن الأديب مكتوب عليه أن يكون محروما سيءَ الحظ، فمن الطبيعي ـ وفق هذا المنطق ـ أن يُقتَل في اليوم التالي لمبايعته خليفة !
هكذا نطق التراث، وإذا كان ثمة شيء من المبالغة في توصيف مستوى الشقاء والحرمان الذي لازم المفكرين الأدباء العرب، فإن شواهد الحال في هذا العصر تُؤكد شرعية استمرار مثل النظرة المتشائمة لحال المفكرين والأدباء؛ مقارنة بحال اللاعبين والفنانين. فالمفكر العربي الكبير، عبد الوهاب المسيري، لم يستطع دفع تكاليف علاجه في السنوات العشر الأخيرة من عمره، فكان علاجه بـ”تبرّع”، وكذلك، محمد عابد الجابري، كان علاجه ـ عندما مرض ـ بـ”تبرّع”، ومن قبلهما الشاعر، أمل دنقل، كذلك…إلخ القائمة المؤلمة. ومن المحبط جدا أن يكون المفكر أو الأديب محل “مساعدة” أو “تبرع”، أو يكون في انتظار “مساعدة” أو “تبرع”، إذ الأصل أن يعتاش ويكتفي بحقه الخاص/ حقه الأصيل.
أخيرا، ليس معنى هذا أن يكون ثمة قرارات أو تنظيمات تضع الأدباء والمفكرين في مصاف اللاعبين والفنانين، إذ هذا غير مُتصوّر أصلا. وحتى محاولة ضمان الاكتفاء الذاتي لهؤلاء المفكرين والأدباء لا تكون بالتنصيص المباشر على ما يجب أن يكون لهم، فالمسألة ـ برمتها ـ تبدأ من موقع الفكر والثقافة في الوعي العام، تبدأ من طبيعة السوق الثقافي. فإذا كانت طباعة 300,000 نسخة من الكتاب في الولايات المتحدة هي الوضع الطبيعي/ المعتاد، فإن طباعة 3000 نسخة من الكتاب في العالم العربي هي الوضع الطبيعي/ المعتاد، مع أن عدد سكان العالم العربي يتجاوز عدد سكان الولايات المتحدة. هنا المشكلة وهنا الحل، مِن هذا “الكساد” لسوق المعرفة والأدب تبدأ الحلول، وهي حلول متعددة الأبعاد بالضرورة؛ من حيث أن هذا “الكساد” بطبعه متعدد الأبعاد.