بقلم: حسن إسميك – المصري اليوم
الشرق اليوم- منذ بداية العام الجاري 2021، تحاول تركيا مع كل فرصة سانحة أن تخفف من «ثقل» ملفات الخلاف مع مصر. هذا الثقل الذي سبق وأضافته بنفسها في مناسبات سابقة مختلفة، حين اعتقدت السلطة التركية أنها تستطيع الحلول مكان واحدة من أعرق الدولة العربية ومن أكثرها نفوذاً وتأثيراً بملفات المنطقة الساخنة العديدة، لكن أنقرة تعود اليوم –كما أعلن رئيسها سابقاً– لتستبدل وتر التصعيد الذي عزفت عليه كثيراً في السنوات الماضية، بوتر «الروابط التاريخية» بين الشعبين!
هل سيعني ذلك إذن أن المرحلة القادمة ستنسج شكلاً جديداً من العلاقة بين البلدين الوازنين في منطقة الشرق الأوسط خلال المرحلة الحالية؟ في الحقيقة إن تاريخ هذه العلاقة يجعلنا نتروى في عقد الكثير من الآمال، خاصة إذا ما نظرنا إلى مجمل الأوضاع الإقليمية والدولية التي وجدت تركيا نفسها عالقة فيها، والتي دفعتها إلى محاولة التقارب مع مصر من جديد بعد سنوات من التذبذب والاستفزازات المتكررة التي قامت بها أنقرة تجاه الدولة المصرية. بمعنى آخر، هل ستبقى هذه القيادة على سياستها «التوددية» تجاه مصر في حال تغيرت هذه الظروف؟ أم أنّ التوجه الحالي لا يعدو كونه مناورة سياسية في انتظار تغيّر المناخ الدولي؟
تراقب جميع الأطراف (الإقليمية والدولية) الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط والمنخرطة في ملفاتها المعقدّة، مسار جولات النقاش بين مصر وتركيا، فمن شأن تحديد العلاقة بين الدولتين حلّ العديد من المشكلات أو زيادة حدّتها. وفي الوقت الذي تسعى فيه تركيا من خلال هذا التقارب إلى الخروج من حالة العزلة التي بدأت تجد نفسها فيها، يبدو أن الطرف المصري يجري حساباته بدّقة وتروٍ، مُبدياً ترحيبه بهذا التقارب، مع التذكير الدائم بالشروط التي تلزم لنجاح هذه العلاقة، والمرتبطة بقضايا جوهرية سياسية واقتصادية في المنطقة.
لا تمتلك مصر وتركيا حدوداً مشتركة، ولا تشكلاّن تهديداً مباشراً الواحدة للأخرى، لكن العلاقة بينهما لم تسر على وتيرة واحدة منذ عقود، فكانت محكومة دائماً بالتطورات والتغيرات على المستويين الإقليمي والدولي، حيث شهدت أولى أزماتها الحديثة خلال عام 1955 حين جرى سحب متبادل للسفراء بين البلدين، وخفت حدة تلك الأزمة على مدار السنوات اللاحقة، لتنتعش العلاقة بشكل خاص أثناء حكم «الإخوان المسلمين» لمصر 2012-2013، حيث أظهرت تركيا دعمها لمصر كدولة تابعة لسلطتها، بغية إزاحة التأثير الذي تمثله الأخيرة كدولة عربية كبرى، وتمهيداً لتحقيق أحلام أنقرة في زعامة المنطقة وتوسيع نفوذها فيها.
بعد الإطاحة بالحكم الإخواني في مصر، اتخذت تركيا موقفاً عدائياً صريحاً من القيادة المصرية الجديدة، تمثلّ بشن هجمات وحملات إعلامية ضد السلطة المصرية، وتحولت تركيا إلى قبلة للمعارضة المصرية وأفراد جماعة الإخوان المسلمين التي كانت السلطات المصرية قد أعلنتها جماعة إرهابية.
وبالمقابل كان الرد المصري قوياً ومحملاً برسائل متعددة، فقد بدأ مع إلغاء اتفاقية “الرورو”، المتعلقة بتمرير العبّارات التركية في قناة السويس عام 2015، وتصاعد مع القطيعة الدبلوماسية والحملات الإعلامية ضد حكومة أردوغان عقب محاولة الانقلاب عليه عام 2016، ودعم معارضه (فتح الله غولن). ورغم أن عام 2017 شهد بوادر تحسّنٍ في العلاقات الاقتصادية بين الدولتين، إلاّ أنّ هذا الجو لم يدم طويلاً، وعادت أنقرة إلى الاستفزاز مجدداً مع قرارها إنشاء قواعد عسكرية تركية في البحر الأحمر (جزيرة سواكن السودانية)، بحجة أنها كانت ملكاً للعثمانيين!
إذن، تعدّ قضية دعم تركيا للإخوان المسلمين أهم الملفات المختلف عليها بين البلدين، لكنها ليست الوحيدة، فلقد مثّل التدخل التركي في ليبيا، جارة مصر وعمقها الاستراتيجي، القشة التي قصمت ظهر البعير في مسار العلاقة المترنحة بين الجانبين. كان لهذا التدخل عدة دوافع، منها محاولة كسر العزلة التركية عن طريق توقيع مذكرة تفاهم مع حكومة طرابلس في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، بهدف ترسيم الحدود البحرية بين الطرفين، وذلك رداً على قيام مصر بتدشين منتدى غاز شرق المتوسط، والذي ضمّ مصر وإسرائيل والأردن واليونان وقبرص وإيطاليا، ورأت فيه تركيا محاولة لعزلها عن ثروات المنطقة.
لكن مساعيها باءت بالفشل حين أعلنت مصر واليونان وقبرص في مذكرة مشتركة أن الاتفاق الذي تم بين تركيا وحكومة السرّاج بخصوص الترسيم عام 2019: «ليس له أثر قانوني»، بل وقامت مصر في آب/أغسطس 2020 بتوقيع اتفاق جديد مع اليونان، يحدد المناطق الاقتصادية البحرية الخالصة بين البلدين، ما يعني تقسيم ثروات الغاز الطبيعي الموجودة فيها.
إزاء ذلك.. ما كان من أنقرة سوى أن قامت في كانون الثاني 2020، بإرسال قوات إلى ليبيا دعماً لحكومة السرّاج ضد قوات شرق ليبيا التي تدعمها مصر، الأمر الذي رأت فيه الأخيرة تهديداً لأمنها القومي، وخرقاً لقرارات مجلس الأمن يهدد إمكانية الوصول إلى حلّ سلمي للأزمة في ليبيا، لتستمر القاهرة في إعلان دعمها للجيش الليبي في حربه ضد الإرهاب والتدخلات الإقليمية.
إذن، يمكن أن تُقرأ عودة المحاولات التركية لتحسين العلاقة مع مصر من عدة زوايا، فهي في جانب منها جزء من السعي التركي لترطيب الأجواء مع جاراتها من الدول الفاعلة إقليمياً، خاصة بعد تصاعد حالة التوتر الذي تشهده العلاقات التركية الأمريكية، إبانّ وصول الرئيس جو بايدن إلى سدّة الحكم (وما صاحبه من اعتراض صريح على صفقة صواريخ S-400 الروسية، والقلق من التقارب التركي الروسي على صُعدٍ عدّة، إلى جانب الخلاف المستمر حول الملف الكردي). ومن الواضح أيضاً أن تركيا أدركت صعوبة الحلول مكان مصر في استقطاب العالم العربي والإسلامي، بعد محاولاتها المتكررة، تارة من خلال القضية الفلسطينية، وأخرى من خلال دعم حركات الربيع العربي، والذي اتخذته ذريعة للتدخل في شؤون دول المنطقة دون أن تسهم في حلّ أزماتها فعلياً.
وإلى جانب كلّ ذلك، يسعى أردوغان لتحسين سياسته الداخلية والخارجية مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية القادمة 2023، خاصة بعد خسارته للانتخابات البلدية، ومطالبة المعارضة بضرورة تحسين علاقته مع مصر، حيث ذكر «فائق أوزتراق» (المتحدث باسم حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة التركية) خلال مؤتمر صحفي: «منذ اليوم الأول للأزمة مع مصر طالبنا بضرورة تحسين العلاقات معها، فهي مهمة للغاية من أجل مصالحنا الوطنية، ولقد كشفت الأيام وما شهدناه في شرق المتوسط والمنطقة منذ 2013 أن مخاوفنا كانت صحيحة».
يتقاطع هذا التودد التركي مع رغبة مصر في توسيع دائرة علاقاتها الخارجية، وعدم فتح جبهات جديدة للصراع حفاظاً على أمنها القومي، وتماشياً مع الإصلاحات الداخلية التي تركز عليها القاهرة وتضعها على رأس أولوياتها خلال هذه المرحلة، والتي ستعززها الاتفاقيات الجماعية الدولية في مجال الغاز والنفط والواعدة بتحقيق الاستقرار في المنطقة، ولذلك تبدي سلوكاً إيجابياً- لكنه حذر أيضاً- في مسار استعادة العلاقة الكاملة مع أنقرة، وهي كما جاء على لسان وزير خارجيتها مؤخراً: «تقيّم بشكل دائم إلى أي مدى هناك مراعاة للقواعد التي تحكم العلاقات الثنائية، والتزام كل طرف بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدى الطرف الآخر، ومبدأ الاحترام والاعتراف بسيادة الدولة، في إطار المراجعة للسياسات المنتهجة على المستوى الإقليمي».
تفاوض مصر من موقع أقوى على أية حال، فالسياسة الخارجية تحمل تحديات أكبر وزناً للحكومة التركية بسبب الوضع الاقتصادي غير المستقر في البلاد. ورغم بوادر التقارب واللقاءات التي جمعت مسؤولي البلدين في الفترة الأخيرة، لا يتوقع حدوث تطبيع كامل للعلاقات المصرية التركية في الوقت القريب، خاصة وأن شكل الترتيب المتفق على ضرورته في ليبيا لم يتحدد بعد، ولن تقبل مصر بوجود عسكري تركي طويل الأمد على حدودها، كما أن الانسحاب الكامل للوحدات التركية سيكون خياراً غير مرجح بالنسبة لأنقرة. كما تكمن العقبة الرئيسة أمام تطبيع العلاقات الكامل في الخلافات الأيديولوجية بين الأنظمة في البلدين، ويعتمد هذا التطبيع في جزء منه، على دعم القوى الكبرى الفاعلة في المنطقة، ودور القوى الإقليمية الأخرى التي ستبحث كذلك عن مصلحتها في حدوث هذا التقارب أو عدمه.
لا شك بأن المنطقة ستجني فوائد كثيرة من تفاهم مصري تركي، فللدولتين قدرة على إعادة ضبط إيقاع التطورات فيها، وتمتلك كلٌّ منهما الكثير من الأدوات التي من شأنها الحفاظ على الاستقرار والأمن هناك، وذلك لو توافرت الرغبة الحقيقية بهذا التعاون لدى الجانب التركي على وجه الخصوص، وركنت قيادة أنقرة إلى «عقلنة» طموحاتها الإقليمية، والكف عن التدخل في شؤون الدول الداخلية ولعب دور الوصي عليها، والتخليّ النهائي عن أوهام عودة «الخلافة العثمانية»، والتقدير الجيد للأوزان السياسية الحقيقية لمصر وغيرها من دول المنطقة.