بقلم: د. منار الشوربجي – المصري اليوم
الشرق اليوم – وباء كورونا كشف عن ظواهر تعكس الأزمة التي يواجهها الاقتصاد العالمي. فالولايات المتحدة، رأس ذلك النظام العالمي النيوليبرالي، شهدت عشرات الاحتجاجات العمالية، لم تشهد مثلها ربما منذ الستينيات.
والنظام الاقتصادي النيوليبرالي العالمي هو نظام يقوم على تقليص دور الدولة في الاقتصاد للحد الأدنى، مع إطلاق قوى السوق دون قيد أو شرط. والمفارقة أن تقليص دور الدولة الذي يعني انسحابها من حماية مواطنيها عبر البرامج الاجتماعية التي تخدم الأغلبية الساحقة، لم يكن يعني تقليص دورها في حماية الشركات العملاقة عبر تخفيضات ضريبية مذهلة.
والاقتصاد النيوليبرالي الذي صار عالميًا على مدار العقود الأربعة الأخيرة صارت تداعياته الخطيرة واضحة حتى في أكبر الدول الرأسمالية وأكثرها ثراء، الولايات المتحدة. فقد تقلصت القيود التي تفرضها الدولة لحماية العاملين وضمان حقوقهم، فصاروا يضطرون لقبول شروط عمل جائرة تنضح بالاستغلال. وقد كشفت صور الاحتجاجات الأخيرة عن عمق الأزمة واتساعها.
فعلى سبيل المثال، كان 99% من أعضاء اتحاد العاملين بمجال صناعة السينما بهوليوود قد صوتوا لصالح القيام بإضراب عن العمل بسبب شروط العمل الجائرة، والتي ازدادت ظلمًا مع بقاء الناس بمنازلهم وزيادة الطلب على تلك الصناعة. فقد تم مثلًا تقليص عدد الساعات التي يقضونها خارج العمل قبل العودة له مجددًا. لكن فور علم كبرى مؤسسات صناعة السينما بقرار الإضراب سارعت بعقد اتفاق مبدئى مع الاتحاد يضمن المزيد من حقوق العمال. وفي شركة جون ديير العملاقة لصناعة المعدات الزراعية أضرب أكثر من عشرة آلاف عامل بمصانعها في ولايات أيوا وإلينوي وكانزاس. فالشركة التي ازدادت أرباحها، العام الجاري، بنسبة 67% كانت تستعد لإلغاء برنامج المعاشات الخاص بالعمالة غير المنتظمة والعاملين الجدد. وقد ناقشت اتحادات مقدمي الرعاية الصحية تنظيم عشرات الإضرابات من مدينة بافالو بنيويورك في أقصى الشرق إلى هيئات التمريض في مدن كاليفورنيا في أقصى الغرب. فهم الذين وقع على عاتقهم العبء الأكبر في مواجهة وباء كورونا في وقت كانوا يعانون فيه أصلًا من تقليص مزاياهم الصحية وبرامج معاشاتهم.
وقد كان في الجوهر من كل تلك الاحتجاجات ما يسمى نظام العمل المزدوج. وهو واحد من أهم اختراعات الاقتصاد النيوليبرالي. فقد تفتق ذهن المؤسسات العملاقة عن وسيلة جديدة لتحقق أرباحًا طائلة. وهي تقليص العمالة الدائمة، والاعتماد أساسًا على العمالة غير المنتظمة، التي تحصل على أجور ومزايا أقل بكثير مقابل العمل نفسه الذي تقوم به العمالة الدائمة. والاحتجاجات الحالية تمثل تضامنًا واضحًا للعمالة الدائمة مع العمالة غير المنتظمة، بعدما أدركت الأولى أن ذلك النظام يضر بمقدراتها هي الأخرى.
والولايات المتحدة ليست وحدها التي برزت فيها تلك الاحتجاجات بالمناسبة، حيث تصدرت أخبارها في كوريا الجنوبية وفرنسا.
وقد برزت بأمريكا ظاهرة جديدة، حيث ترك 3 ملايين أمريكي وظائفهم، أي ما يمثل 3% من قوة العمل، وفق إحصاءات وزارة العمل الأمريكية. وهم تركوا وظائفهم اختياريًا ودون سابق إنذار، مما أحدث نقصًا بالعمالة بمؤسسات عدة. وتقول التقارير إن هؤلاء تركوا وظائفهم بعدما أفسح لهم البقاء ببيوتهم بسبب كورونا الوقت لإعادة تقييم أوضاعهم وإدراك استغلال أصحاب العمل لهم. ولايزال الغموض يكتنف تلك الظاهرة، إذ لم تتضح بعد الوجهة التي سيتخذها أولئك العاملون ولا نوعية الوظائف التي يبحثون عنها.
وظاهرة الاحتجاجات ذاتها يكتنفها الغموض هي الأخرى، إذ لم يتضح بعد ما إذا كانت ظاهرة عرضية أم أنها إرهاصات لانفجار عالمي أكبر يشهده المدى الأطول.