بقلم: د. ماجد السامرائي – العرب اللندنية
الشرق اليوم- مجلس الأمن الدولي الذي عقد أول اجتماع له بعد تأسيسه وفق ميثاق الأمم المتحدة في السابع عشر من يناير 1946 لم يولد تلبية لرغبات شعوب العالم في الدفاع عن مصالحها، إنما لتذكيرها بأن للانتصار في الحروب الكبرى مزايا التفرّد بمصير شعوب الأرض. رغم أن 75 عاماً قد غيّرت مواقع الهيمنة، تراجعت خلالها إمبراطوريات وكبرت ونهضت دول كانت صغيرة مهزومة مُعاقبة بسبب آثام قادتها، وتفككت حجوم أخرى كبيرة، لكن مثال مجلس الأمن الدولي يؤكد نظرية تمسك صاحب الكرسي بكرسيه حتى لو كان متربعاً على أشلاء الضحايا من البشر.
مناسبة هذه السطور البيان الصحافي الذي أصدره مجلس الأمن الدولي يوم الثاني والعشرين من أكتوبر الحالي حول الانتخابات العراقية رغم أنه ليس حدثاً كبيراً ويقع ضمن اليوميات الخبرية، لكنه احتوى على وجهين يبدوان متناقضين في النوايا والأغراض، أولهما استنكاره لتهديد ممثلته في بغداد جينين بلاسخارت، والثاني الإشادة المُبكرة بنجاح الانتخابات العراقية، مما أثار ردود فعل انحازت باتجاهين متناقضين أيضاً، الأول شعور غاضب لبعض القوى الشيعية صاحبة الميليشيات بسبب الخسارة الانتخابية وكشف حجومها السياسية أمام منافسيها، والثاني تعبير شعبي عن ظلم حقيقي يتحمل فيه مجلس الأمن مسؤولية أخلاقية وسياسية لتواطئه في تغطية الكارثة التي لحقت بشعب العراق التي امتدت لثلاثة عقود مضت وما زالت مستمرة تحت أغطية ما سمي بإجماع الكبار.
لا أعرف شخصياً متى يصدر مجلس الأمن الدولي بيانات صحافية، فلست متابعاً للتفصيلات القانونية الدقيقة التي تدفع إلى مثل هذه الفعالية. هل تحصل بعد قرارات سياسية أو عسكرية للمجلس لتأكيدها لدفع المعنيين المقصودين للالتزام بتلك القرارات، أو أن الحالة المقصودة لا ترقى إلى اجتماع يصدر عنه قرار أو بيان سياسي من الأمانة العامة للمجلس؟ كل ما عرفناه في كارثة العراق قبل وبعد غزوه من قبل الولايات المتحدة وحلفائها عام 2003 وتدمير شعبه وتسليمه في ما بعد لإيران، أن صاحب الجلالة مجلس الأمن الدولي “الموّقر” لم يحرّك أعضاؤه ساكناً لوقف اجتياح الجيوش الغازية لبلد مستقل عضو في الأمم المتحدة.
مَنْ غزا العراق دولتان عضوان في مجلس الأمن الدولي هما الولايات المتحدة وبريطانيا. بعد أن عجزتا عن تمرير مشروع الغزو نفذ التحالف الاجتياح دون تفويض دولي ولم تتقدم أي من الدول الثلاث الأعضاء الأخرى (روسيا والصين وفرنسا) بمشروع قرار يمنع الغزو ويعطله، وهي بذلك متواطئة مع الجريمة خدمة لمصالحها الخاصة.
ما صدر عن مجلس الأمن حول الانتخابات العراقية مؤخرا يؤكد أهمية معاودة تذكير دول العالم المنتظمة في هذه المؤسسة الأممية بأنها صنيعة مرحلة تاريخية يفترض أن تنقرض كجزء من تاريخ مضى، وأعضاؤها الرئيسيون الخمسة متواطئون في جريمة تدمير شعب العراق بنسب متفاوتة، وكذلك العرب في مؤسستهم الجامعة التي كانت الأداة المباشرة لتنفيذ مشروع التدمير، وبعضهم قدم خدمات لوجستية وسياسية وإعلامية للاجتياح العسكري تحت تبريرات حماقة حاكم دخل الكويت في أغسطس 1990 وهم الذين مهدوا له الطريق للوصول إلى ذروة تلك الحماقة الكارثية التي يتحمل كلفتها المرّة شعب العراق واستثمرها الأميون والمرتزقة.
التذكير مهم خاصة لبعض العراقيين الذين ارتضوا خدمة أحد الأركان الأساسيين في جريمة الإبادة المستمرة ضد شعب العراق وهو النظام الحاكم في إيران الذي تولى مواصلة هذه الجريمة عبر أدوات عراقية مُغرر بها تحت عناوين طائفية مذهبية بعد الانتقال من قاعة مجلس الأمن الدولي وقراراته المشؤومة وأخطرها القرار 661 بفرض الحصار لقتل أطفال العراق لكي لا يتحولوا في شبابهم إلى قوة لإعادة بلدهم إلى الحياة إلى درجة أن بعض قادة شيعة السلطة اعتبروا تاريخ الاحتلال الأميركي يوماً وطنياً للعراق.
العراقيون المشتغلون تحت أجنحة ما يسمى “المقاومة الإسلامية” الذين يغضبون اليوم من بيان صحافي عابر لأمانة مجلس الأمن الدولي استنكر فيه التهديد الإعلامي لممثلته في بغداد جينين بلاسخارت وأشاد بالانتخابات نذّكرهم وبعضهم من الجيل الجديد الذي لم يعش مرحلة القتل والتدمير الممنهج بتوافق الاحتلالين الأميركي والإيراني، أنّ عليهم السؤال عن الحقيقة من مصادرها الأصلية في عالم الإنترنت اليوم وباعترافات أصحابها حول الفصول الوحشية لقتل العراقيين التي لا تقل بشاعة عن الهولوكوست النازي ضد الكفاءات العراقية في الميادين العسكرية والمدنية وفئات كانت مقاومة للمحتل الأميركي والتواطؤ الشرير بين طهران وواشنطن وتل أبيب عبر ما سمي بـ”فرق الموت”.
كما نذكرهم بمراجعة تهديدهم الحالي لبلاسخارت، فلم تمرّ أيام طويلة بعد على العلاقة الحميمة بين المسؤولة الأممية وبين قادة الغاضبين منها اليوم لأنها أعطت غطاء لمشروعية انتخابات رفضها شعب العراق وقاطعها. ففي أكتوبر من العام الماضي التقت بلاسخارت القائد البارز في الميليشيا الولائية عبدالعزيز المحمداوي (الخال أبوفدك)، وبعدها بثلاثة أشهر زارت طهران بمهمة غامضة والتقت بعلي أكبر ولايتي مستشار المرشد خامنئي.
لعل وقائع التاريخ الممتدة في حاضر العراق تبقى وصمة عار تلاحق جميع الذين تسببوا في تدمير الإنسان العراقي ونهب ثرواته بشكل متواصل منذ ثلاثين عاماً، في المقدمة حكام البيت الأبيض الذين لن تنفعهم أمام الضمير الإنساني الاعتذارات المتأخرة قبيل رحيلهم من هذه الحياة، وأمثلتهم كثيرة، آخرهم وزير الخارجية الأسبق كولن باول. كذلك وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت التي تعيش آخر أيامها وتذكرت عذابات التشرّد التي أصابتها من الحكم النازي في بلدها تشيكوسلوفاكيا فاعتذرت في لقاء مع الصحافية الأميركية إيزابيل كومار (عام 2016) واصفة حديثها التلفزيوني عن أطفال العراق بالعار والخطيئة، حين أجابت عن السؤال: هل كان قتل نصف مليون طفل عراقي تحت الحصار يستحق؟ بقولها نعم إنه يستحق.
العراقيون أصحاب الكارثة ضد نسائهم وأطفالهم يسألون: هل قدم واحد من مندوبي الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، خاصة الأوربيين ممن يبالغون في الدفاع الإعلامي عن حقوق الإنسان، مشروع إدانة ضد الممارسات البشعة لجنود الولايات المتحدة الغازية الذين تورطوا بقيادة وزيرهم دونالد رامسفيلد في فضائح التعذيب في العراق، وكافأه رئيس الوزراء الدعوي إبراهيم الجعفري بهدية سيف ذوالفقار؟
لقد كشف جزءاً من مسلسل التواطؤ الدنيء أحد الضحايا العراقيين، صاحب صورة الإدانة المشهورة علي القيسي الذي نجا من الموت في سجن أبوغريب، وكذلك اعترافات المجّندة الأميركية ليندي إينغلاد التي سبق أن نشرت صورها وهي تجر سجينا عراقيا عاريا من رقبته وتدخن سيجارة وتبتسم وتقف إلى جوار مجموعة من المعتقلين العراقيين العرايا كُدّسوا فوق بعضهم البعض لالتقاط صور تذكارية لها. حكم عليها من قبل محكمة أميركية عام 2005 بالسجن إثني عشر عاماً ثم أطلق سراحها بعد ثلاث سنوات.
منتجو أفلام هوليوود الذين قدّموا خلال السنوات الأخيرة أفلاماً مهمة ذكّرت بالنتائج النفسية المريرة التي أصابت الجنود الأميركيين في العراق من آثار قتلهم للنساء والأطفال العراقيين خلال احتلال العراق لم يجرؤوا على التعرّض لجرائم الاحتلال الأميركي في سجن أبوغريب وغيره لأنها تمس عصب السياسات المركزية الأميركية وتعرّض مشروع التدمير الحالي للتعطيل.
كجزء من تعميم مقولة “الزمن خير كفيل لنسيان الكوارث والآلام” وتطبيقها على الشأن العام، تمارس أجهزة إعلام عربية وفضائيات بعض حكومات الخليج، مثل الجزيرة والعربية، دور تغييب الجريمة التاريخية ضد العراقيين، بل تساند حكم الأحزاب الفاسدة حالياً في العراق، لأن التقرّب منها وعرض حقائقها يكشف الأدوار المخفية لبعض العرب في تدمير العراق.
هل يمكن مثلاً نسيان حادثة قتل الإعلامية مراسلة قناة العربية أطوار بهجت التي حاولت كشف خلفيات تدمير مرقد الإمامين العسكريين بسامراء والتي أُعلن زوراً أن المجرمين المباشرين هم من فلول داعش؟ وطريقة تمرير التزييف أصبحت سهلة. لكن قناة العربية لم تكلف نفسها بالتقصّي ومتابعة خيوط الجريمة لأن هناك موانع أصبحت معروفة.
واهمون أولئك الذين يغطّون المسرح السياسي العراقي اليوم بتفصيلات نزاعهم على سلطة النهب والفساد وبمظاهر ساذجة من خلافات ثم توافقات، لأن شعب العراق من خلال ثورة أكتوبر العراقية أحدث الاختراق الكبير في جدار تحالف الشر والتدمير وسيتحول إلى مسار وبرنامج وطني حقيقي إذا ما اجتمع واتفق الوطنيون العراقيون الشرفاء ممن لم تتلطخ أياديهم بجرائم القتل ونهب الثروات.