بقلم: بول كروجمان – صحيفة “الاتحاد”
الشرق اليوم – ماذا يحدث للتضخم حالياً؟ الواقع أننا نعرف بالطبع ما تقوله الأرقام الحالية: إن التضخم مرتفع في الوقت الراهن، وإن لم يكن بمستويات السبعينيات. لكن هل يتعلق الأمر بارتفاع طفيف وعابر، أم ببداية مشكلة أطول أمداً؟ الحقيقة أن الاقتصاديين منقسمون انقساماً عميقاً. وشخصياً، أميلُ إلى الاحتمال الأول، لكنني قد أكون مخطئاً، والبيانات غامضة بما يكفي لدرجة أن كل واحد من الجانبين يستطيع الزعم بأن الأدلة إنما تؤيد موقفه.
غير أن صنّاع السياسات لا يمكنهم الاكتفاء بإبداء عدم اليقين وحسب، بل عليهم صنع سياسات. وعليه، فما الذي ينبغي عليهم القيام به إزاء حالة عدم اليقين هذه؟ الجواب في تقديري يكمن في صنع سياسات لا تُلحق ضرراً كبيراً جداً في حال تبين أن موقفهم من التضخم خاطئ.
وهذا يعني في السياق الحالي أن على «الاحتياطي الفدرالي» تجاهل الدعوات إلى تشديد سريع للسياسة النقدية.
لماذا من الصعب جداً اتخاذ قرار بخصوص التضخم في الوقت الراهن؟ لأن الاقتصاد الحالي، الذي لا زال متأثراً جداً بالجائحة، غريب، حتى نستخدم المصطلح التقني. ذلك أن التدابير المعيارية التي يستخدمها الاقتصاديون للتمييز بين الارتفاعات الطفيفة المؤقتة في الأسعار والتضخم الحقيقي تحكي قصتين مختلفتين.
لكن ما مدى خطورة مشكلة التضخم؟ يمكننا أن نتجادل بشأن ذلك، لكن ربما النقطة الأساسية هي أنه لا أحد سيفوز في ذاك الجدل قبل فوات الأوان لإعطاء صناع السياسات إرشادات مفيدة. أعتذر، لكن إلقاء الخطب على قنوات التلفزيون وإرسال تغريدات بالخط العريض لن يحسم هذا الجدل.
ولكن ما الذي ينبغي أن يوجّه السياسات؟ أقترح أن نعمل بنصيحة أوليفر كرومويل: «أناشدك أن تعتبر إمكانية خطئك شيئاً ممكناً».
ولنتأمل، كمثال لما لا ينبغي القيام به، مصير حزمة تحفيز الاقتصاد التي سنّتها إدارة أوباما في عام 2009. لقد بات من الواضح الآن أنه لئن كان تحفيز الاقتصاد ضرورياً، فإن الخطة الحقيقية كانت أصغر بكثير وأقصر أمداً مما ينبغي (مثلما حذّر بعضنا من ذلك وقتئذ). لكن ما سبب ذلك؟
جزء من الجواب هو أن التنبؤ الاقتصادي لإدارة أوباما كان متفائلاً على نحو مفرط، لأنه كان يتوقع تعافياً سريعاً من النوع الذي نادراً ما يحدث في أعقاب الأزمات المالية. لكن المشكلة الأكبر كانت فشلاً في التفكير في ما سيحدث في حال اتضح أن التنبؤ كان خاطئاً.
والواقع أنه لو تبين أن حزمة التحفيز كانت أكبر مما ينبغي، فإن ذلك ما كان سيمثّل مشكلة كبيرة، إذ كان بوسع «الاحتياطي الفدرالي» أن يرفع معدلات الفائدة قليلاً لتجنب الارتفاع المفرط في حرارة الاقتصاد. أما إذا تبين أن حزمة التحفيز أصغر مما ينبغي، فإن «الاحتياطي الفدرالي» لم يكن ليستطيع خفض المعدلات لأنها كانت في الصفر أصلاً. وعليه، فما الذي ينبغي فعله في الحالة التي بين أيدينا؟
رسالة من لاري سمرز، كبير اقتصاديي باراك أوباما، أشارت إلى أن الرئيس كان يستطيع العودة إلى الكونجرس بكل بساطة لطلب المزيد: «أن تضيف إلى التحفيز المالي غير الكافي في منتصف الطريق أسهل من النقص المفرط للتحفيز المالي». لكن ذلك كان سوء تقدير للمشهد السياسي، وقد حذّر منه بعضنا وقتئذ.
القصد هو أن فريق أوباما أخطأ، ليس بسبب القيام بتنبؤ خاطئ، وإنما بسبب الفشل في إدراك أن أخطار حزمة تحفيز اقتصادي أصغر مما ينبغي أكبر وأعلى بكثير من أخطار حزمة أكبر بكثير.
ما الذي يقوله ذلك بخصوص وضعنا الحالي؟ السياسة المالية لم تعد مطروحةً على الطاولة تقريباً، وأياً يكن مصير خطط الرئيس جو بايدن الخاصة بالإنفاق، فإنه من غير المحتمل أن يكون لها كبير تأثير على التطورات الاقتصادية قصيرة الأمد. وبالتالي، فالسؤال يتعلق بسياسة «الاحتياطي الفدرالي». فهل ينبغي لـ«الاحتياطي» رفع معدلات الفائدة قريباً لتفادي التضخم، أم الانتظار لرؤية ما إن كان التضخم الأخير سيكون عابراً ومؤقتاً؟
الواقع أن هناك مخاطر في الحالتين؛ ذلك أنه إذا اختار «الاحتياطي» الانتظار، فإن التضخم قد يصبح مترسخاً ومستعصياً، وخفضه من جديد يمكن أن يكون مؤلماً، إن كان ممكناً أصلاً. ومن جهة أخرى، إذا رفع «الاحتياطي» معدلات الفائدة لتفادي مشكلة تضخم ثبت لاحقاً أنه مبالغ فيها، فإن ذلك يمكن أن يضر بالتعافي الاقتصادي بطرق من الصعب إصلاحها. ذلك أن معدلات الفائدة ما زالت منخفضة جداً، وبالتالي فإنه لن يكون هناك مجال كبير لخفض الفائدة في حال ضعف الاقتصاد.
وعليه، فيبدو أن خيار «انتظر لترى» هو الشيء الحصيف الذي ينبغي القيام به. وشخصياً، أعتقدُ أن التضخم الحالي قصير وعابر، لكنني ليست متأكداً. غير أنني واثق من أن تشديد السياسة النقدية بناءً على ما نعرفه سيمثّل خطأً فادحاً، لأن مخاطر التصرف بشكل أسرع مما ينبغي والتصرف بشكل متأخر أكثر مما ينبغي متناظرة.
باختصار، وجب التروي والتأني، على الأقل في الوقت الراهن.