بقلم: عاطف الغمري – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – أوروبا كما هو معروف ليست دولة واحدة. وكلّ دولة من دولها محاطة بظروف تنفرد بها. وبالتالي لا تملك مقومات إدارة استراتيجية الدفاع عن أوروبا ككتلة واحدة. وسبق للبرلمان الأوروبي أن أعلن في عام 2018 أن هذا الوضع راجع إلى تشتت معايير الدفاع عن القارة، وهي المعايير الموزعة على ما يراه 27 رئيس دولة ومثلهم من قادة قواتها العسكرية، وهو ما تنتج عنه ازدواجية في الرؤية من زاوية النظر العسكرية لنفس الموضوع محل اتخاذ القرار، من ثم لم تكن سلسلة القيادة الجماعية، تكفي للوصول إلى تصور نهائي وحاسم لقضية الدفاع الأوروبي.
هذه القضية خضعت لسلسلة من المناقشات والدراسات حول القدرات الدفاعية الأوروبية، وعلاقتها بالاستراتيجية الأمريكية العالمية.
وعلى ضوء هاتين الناحيتين، اتجهت البحوث التي تعدّدت في عدد كبير من المراكز البحثية المختصة، إلى التركيز على ما ينبغي أن تكون عليه الاستراتيجية الأوروبية الخالصة، وما هو المطلوب لإيجاد استراتيجية الدفاع عن أوروبا، في حالة وقوع أي نزاع محتمل مع روسيا.
الخبير الاستراتيجي باري بوسن تعرض لهذه الأفكار في دراسته بعنوان: هل تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها؟ والتي تعتبر رداً على دراسة مقابلة لها للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في الولايات المتحدة، والتي ذكرت أن أوروبا تنقصها القدرات الذاتية للرد على أية تهديدات محتملة من روسيا، في حالة انسحاب أمريكا من حلف الأطلسي. ويختلف معه باري بوسن، معلناً أن الوضع سيكون في صالح أوروبا إذا اتخذت لنفسها استراتيجية دفاعية.
في نفس الوقت فقد أدلى بدلوه في هذا الجدل كلٌّ من البروفيسور ستيفن بروكس مؤلف كتاب «أمريكا في القرن الواحد والعشرين»، وهو جو ميجر الخبير بمركز الدراسات الدولية، بجامعة أوكسفورد. وقد نشرت مطبوعة «سيرفايفل» وجهتي نظرهما. ويقول الاثنان إنهما يتفقان مع تقييم بوسن من أن أوروبا تحتاج إلى استراتيجية دفاعية بعدد أقل من القوات. لكنهما يلاحظان أن بوسن لم يوضح تحديداً ما إذا كان يقصد إيجاد هيكل دفاعي أوروبي خالص من دون شراكة مع أمريكا. وفي تقدير بوسن أن تحقيق ذلك يمكن أن يتم خلال بضع سنوات، بينما يرى بروكس وميجر أن مثل هذا الهدف يحتاج لعشر سنوات على الأقل.
من ناحية أخرى يرى مركز الدراسات الأمنية الأمريكي، أن بنية قيادة حلف الأطلسي، لم يلحقها أي نقص في قدراتها، وأنها لا تزال صالحة للتنسيق في العمليات العسكرية مع أوروبا. ويقرر الاثنان أن هيكل القيادة الأوروبية، يظل أمراً بالغ الأهمية، خاصة أن روسيا لا تزال تعتبر لاعباً وحيداً متكاملاً في أوروبا.
وكان قد صدر في عام 2019 تقرير لمجلس الشيوخ الفرنسي يركز على أنه بالمقارنة بالدول الأوروبية الأخرى، فإن روسيا تتمتع بمميزات كبيرة، وإن كانت لا تقاس بما لدى أوروبا. إلا أن من أهم ما تمتلكه روسيا، وحدةَ القيادة. فالجيش الروسي له سلطة قيادية واحدة، ولغة واحدة، وتوجه عسكري دفاعي واحد. وأن روسيا اليوم قد خلقت لنفسها قاعدة صناعية عسكرية قوية، مع توافر أصحاب الخبرات العالية والمدربة. وهو ما يؤسس لها قاعدة قوية، للبنية التحتية العسكرية في الوقت الراهن. واستطاعت روسيا منذ عام 2010، توسيع أفرع قواتها بشكل كبير، ما جعلها تملك طاقة على إدارة عمليات عسكرية متنوعة ومتكاملة.
والواضح من خلال الدراسات والمناقشات الجارية على قدم وساق، أنها لا تقدم معلومات تفصيلية كافية فيما يتعلق بما تحتاج إليه أوروبا للدفاع عن نفسها. أو عن الجهود المطلوبة لضمان تحقيق ذلك. لكن هذا الانشغال اليومي بتلك القضية يعني أن أوروبا تضع عينها على هدف محدد، لكن استكمال أدواته لايزال بعيداً إلى حد ما. وهو يحتاج إلى وقت حتى تتضح ملامح إمكانية حدوث تقارب بين عدد من القوى الأوروبية ذات التأثير حول رؤية مشتركة. وبالتالي لا يزال هذا الموضوع هو الشغل الشاغل للمختصين بمستقبل استراتيجية الأمن والدفاع الأوروبي.
وكما هو واضح، فإن الانشغال بقضية الدفاع الأوروبي الخالص، لا يدور فقط بين المختصين والمسؤولين في أوروبا، لكنه يدور أيضاً في المجال الأمريكي في الولايات المتحدة، أي على جانبي الأطلسي، وحيث كانت وما زالت قيادة الناتو لأمريكا، وهو وضع قابل للتحول والتغيير، في حالة حدوث توافق أوروبي على استراتيجية للأمن والدفاع.