بقلم: محمد حسين أبو الحسن – النهار العربي
الشرق اليوم- سددت روسيا لكمة قوية للولايات المتحدة، وربحت جولة مهمة في الحرب المشتعلة بينهما على دوائر النفوذ والهيمنة في أوروبا، باكتمال مشروع “السيل الشمالي-2” الذي يتيح لها السيطرة على خطوط الغاز في القارة العجوز، ويشق صفوف الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو؛ بعدما عرقلت مشروع “خط نابكو” التركي المدعوم أميركياً، في دليل دامغ على انتقال التفكير الاستراتيجي الروسي، في رؤيته للصراع الدولي، من الحيز الأيديولوجي إلى توظيف الجيوستراتيجية لتوسيع ركائز الهيمنة؛ لا يتعلق “السيل الشمالي-2” بأمن الطاقة فحسب، بل يرتبط بجانب جيوسياسي، يضع روسيا على عرش “الطاقة الزرقاء” عالمياً؛ ويتخذ أوروبا رهينة لها!
توتّرات مزمنة
استمر العمل بمشروع “السيل الشمالي-2” (نورد ستريم-2) ثلاث سنوات، وتكلف 10 مليارات يورو، تمتلك شركة غازبروم الروسية حصة 50% منه، وخمس شركات أوروبية الـ50% الأخرى، ويتكون المشروع من خطي أنابيب بطول 1220 كم؛ لنقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا؛ عابراً بحر البلطيق، مروراً بالمناطق الاقتصادية والمياه الإقليمية لكل من ألمانيا والدنمارك وفنلندا والسويد وروسيا، بطاقة 55 مليار متر مكعب سنوياً، تغذي 26 مليون منزل أوروبي، وبالإضافة إلى ألمانيا، تستفيد منه النمسا وإيطاليا، وقد يتوسع إلى دول أخرى.
من المعروف أن دولاً أوروبية تعتمد على الغاز الروسي، ومن دونه تواجه صعوبات في استمرار الحياة الطبيعية، لا سيما في الشتاء القارس؛ وبرغم ذلك، فإن العلاقات الروسية مع أوروبا الغربية تحفل بتوترات مزمنة، ترجع إلى حقبة الحرب الباردة بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وتتهم موسكو الدول الأوروبية بأنها تابعة لواشنطن في تصويبها المستمر على روسيا وريثة الاتحاد، وهي تنزعج بشدة من تمدد حلف الناتو لملامسة حدودها الغربية. في المقابل، يدفع الأوروبيون بخطاب يمزج بين المصلحة والقيم السياسية، كالديموقراطية وحقوق الإنسان، ويتهمون روسيا بأنها متأخرة في هذا الميدان، وبأنها لا تزال تُحكم بنظام قمعي. غير أن الصف الأوروبي ليس موحداً؛ فألمانيا على وجه التحديد ومعها فرنسا وإيطاليا واليونان، ترى إمكان التعاون الإيجابي مع روسيا، وهو ما ترفضه دول وسط أوروبا وشرقها التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو سابقاً، كالمجر وبولندا والتشيك وأيضاً أوكرانيا التي انتزعت منها موسكو شبه جزيرة القرم عام 2014.
هكذا يأتي اكتمال خط “السيل الشمالي-2” دليلاً على قيادة ألمانيا لأوروبا صوب ترجيح سياسة التّسويات على أولويات التضامن الأوروبي والأطلسي، لذلك تجد ألمانيا نفسها متّهمة أوروبياً بالتساهل مع روسيا؛ لكنّ لهذا التمايز الألماني أسباباً سياسية واقتصادية. سياسياً، ترغب ألمانيا في الشعور بفرادتها وقيادتها للقارة العجوز. اقتصادياً، لدى ألمانيا وأوروبا “جوع” – إن جاز الوصف – إلى المزيد من إمدادات الغاز الروسي اللازم للتدفئة والصناعة والنمو الاقتصادي، عبر “السيل الشمالي 2”.
إعلان حرب
إذاً، لا يعد “السيل الشمالي- 2” مصلحة روسية فقط، بل هو مصلحة أوروبية أيضاً؛ ويمتلك الألمان والهولنديون والفرنسيون حصصاً في خط الأنابيب، بيد أن هذا يزعج أوكرانيا التي تشعر بالخسارة والتهديد من تحول إمدادات الغاز الروسي، بعيداً من أراضيها؛ لدرجة أن الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي لم يستبعد إمكان اندلاع حرب شاملة بين بلاده وروسيا، تزامناً مع إعلان موسكو اكتمال بناء “السيل الشمالي-2”. فلا يمكن فصل الاقتصاد بحال عن السياسة؛ وأمن الطاقة قضية حيوية ومصيرية لأوروبا. ومن ثمّ تظل أكبر وأهم المعترضين علي “السيل الشمالي-2” هي أميركا؛ بالنسبة اليها، يقدم هذا النوع من الحوادث، سيناريو عالي المخاطر، ولا تكسب شيئاً من ورائه؛ تدرك واشنطن حجم الخطر الذي يمكن أن يشكّله تحالف ألماني – روسي من أي نوع كان؛ لأنها تعلم أن العلاقات بين القوى الكبرى تبدأ من ملفات محدودة، وتتراكم لتصل إلى التحالف الشامل الذي أدى إلى نشوء الأحلاف والأحلاف المضادة؛ فكيف الحال إذا كانت نقطة اللقاء الألمانية – الروسية تكتسب معاني استراتيجية كبيرة في أساسها، ليس أقلّها أمن الطاقة والأمن الأوروبي؟!
تخشى الولايات المتحدة تنامي فرص تحول التنسيق الروسي – الأوروبي تنسيقاً عالمي النطاق؛ ينتقل عمودياً إلى قضايا العالم المشتعلة، وأفقياً من الاقتصاد والطاقة إلى السياسة والتحالفات الجديدة التي لم تتبلور بعد؛ ترتعب واشنطن من أن تتحقق رؤية الرئيس الفرنسي شارل ديغول، حول تشكيل وحدة جيوسياسية تجمع أوروبا وروسيا ووسط آسيا، عبر كتلة “أوراسيا” التي قال إنها “قلب العالم”؛ ما ينذر باضمحلال النفوذ الأميركي في أوروبا وانقسام حلف الناتو وربما انهياره؛ لذلك ظل “السيل الشمالي-2” نقطة جوهرية في الخلافات الأميركية – الأوروبية، خلال العقد الماضي، وقد دأبت الولايات المتحدة، بدعم من بعض أعضاء الناتو والاتحاد الأوروبي، على محاولة تقليم مخالب الدب الروسي؛ عندما عقدت اتفاقية “نابكو” في أنقرة منتصف تموز (يوليو) عام 2009؛ لمد خط أنابيب غاز ضخم، ينقل غاز آسيا عبر الأراضي التركية باتجاه أوروبا، وقد وقعت الاتفاقية أذربيجان وأربع دول أوروبية تمر الأنابيب في أراضيها، وهي: بلغاريا ورومانيا والمجر والنمسا، بحضور رئيس المفوضية الأوروبية وممثل الرئيس الأميركي لشؤون الطاقة في آسيا. واعتبر المشروع حجراً أساسياً في استراتيجية “الناتو” لمنع موسكو من احتكار وسائل إمداد الطاقة وتقليل اعتماد أوروبا عليها في هذا المجال. رأت روسيا في خط “نابكو” تهديداً وجودياً، وحاربت في أكثر من محور لإيقافه، ونجحت في ذلك حتى الآن.
أداة ابتزاز
تنظر الولايات المتحدة الى السلوك الروسي فى أوروبا والشرق الأوسط وغيرهما، من خلال منظور منافسة القوى العظمى، مع إدخال الصين في المعادلة كلما اقتضى الأمر. وقد أبدى الرؤساء الأميركيون المتعاقبون استهجانهم شراء الأوروبيين الغاز الروسي، والتغاضي عن الغاز الأميركي المسال، بينما يستظلون بمظلة حلف الناتو الذي تتكفل واشنطن بالنصيب الأكبر من موازنته، غير أن الرئيس جو بايدن أعرب عن تفهمه الموقف الأوروبي، مع انتهاء العمل في “السيل الشمالي-2″، وتعهد ألمانيا بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا إذا استخدمت الغاز أداة للضغط السياسي على أوكرانيا أو أي دولة أوروبية. بينما شدد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على أن “السيل الشمالي-2” مشروع تجاري لتبادل المنفعة، نافياً المزاعم بأنه يزيد اعتماد أوروبا على إمدادات الغاز الروسي.
القلق من التوجهات الروسية ليس حكراً على الأميركيين، بعض الأوروبيين يشعرون بخوف متأصل تجاه نيات الدّب الروسي؛ تبنى البرلمان الأوروبي قراراً غير ملزم للحكومات، دعا فيه إلى تجميد مشروع “السيل الشمالي-2″؛ خشية تقويض أمن الطاقة الأوروبي؛ بالنظر الى ما تثيره أفعال روسيا من مشكلات كبيرة لجيرانها على صعيد الأمن القومي، والتحول السريع في السياسات الاقتصادية؛ لكن الحكومات الأوروبية تجاهلت قرار البرلمان والتهديدات الأميركية والصرخات الأوكرانية والبولندية؛ من أجل توفير دفء الشتاء لشعوبها؛ بخاصة أن تلك التطورات تأتي وسط نقص المعروض من الغاز بالأسواق الأوروبية.
تنسج روسيا توجهاتها الاستراتيجية؛ مدفوعة بهدف الحد من نفوذ الولايات المتحدة والإضرار بمكانتها فى أوروبا؛ بحثاً عن عالم متوازن متعدد الأقطاب؛ تكشف تقديرات الكرملين بقيادة فلاديمير بوتين عن أن الاهتمام الأساسي لروسيا لا يزال هو السهل الشمالي الأوروبي؛ والذي يُعدّ طريق الغزو التقليدي لروسيا، ويتعاظم التركيز الروسي، مع كون القارة العجوز صارت غير متوقعة سياسياً، في ظل الانقسامات بين توجهات نخبها السياسية وتضارب مصالح دولها، كما تواصل موسكو الضغط على أوروبا الوسطى؛ حتى لا تصبح ساحة يمرح فيها “الناتو” ضد مصالح بلاد القياصرة؛ إذ يمكنها غلق صنابير الغاز عند اللزوم؛ إن “السيل الشمالي-2” عصا ترهيب وردع وأداة ابتزاز ثمينة بيد بوتين؛ تجاه أوروبا والناتو؛ قد ترهن إرادتهما للقيصر، يحركهما أنى وكيفما يشاء!