بقلم: د. يوسف مكي – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – القاعدة المتعارف عليها، في العلوم، هي أنها مستقلة بذاتها. فالعالم يفترض فيه باستمرار أن يكون محايداً ودقيقاً، ومجرداً من العواطف والأهواء. إن وظيفة العالم هي محاولة اكتشاف الكون، وقهر الطبيعة في الكثير من حلقاتها، والإسهام في جعل الحياة الإنسانية أكثر سهولة ورحابة. والعلم بهذا المعنى يختلف عن الأيديولوجيات والعقائد، التي تتخذ موقفاً من الأشياء.
هذا التوصيف لوظيفة العلم، هو أدق بكثير في العلوم الطبيعية، منه في العلوم الإنسانية، كون الأخيرة، تشمل الآداب والفنون والفكر والفلسفة، وعلوم الاجتماع وما له علاقة بإشباع الروح، بمعنى أنها تتعامل بشكل مباشر مع ما هو إنساني. لكن في الحالتين، لا يمكن الركون بشكل مطلق، إلى هذا التوصيف. دليل ذلك أن هناك، حتى في مجال العلوم الطبيعية نظريات توصف بالعلمية، تتصف بالتحيز والعنصرية.
في هذا الحديث نركز على العلوم الإنسانية، ونختار من بينها علم السياسة. ونركز على المعاصر منه، وكيف تفاعل مع الأحداث التاريخية التي أخذت مكانها في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية.
نميز في هذه القراءة، بين عصر الأنوار؛ حيث انتشرت أفكار روسو ومونتيسيكو وهوبر ولوك، وجميعها اهتمت بالتأطير النظري، لما ينبغي أن تكون عليه الدولة التعاقدية، وما يترتب على قيامها من وظائف وحقوق وواجبات. لقد كان فكر الأنوار، رومانسياً وتبشيرياً ببزوغ فجر جديد، عبّرت عنه مبادئ الثورة الفرنسية في الحرية والإخاء والمساواة، كما عبر عنه الدستور الفرنسي، فيما بعد الثورة، الذي نص على أن الناس يولدون أحراراً، متساوون في الحقوق والواجباب.
كانت أفكار عصر الأنوار، تملك استقلالاً نسبياً عن السلطة السياسية. كما كانت سابقة على التحولات الاجتماعية الكبرى، التي شهدتها القارة الأوروبية. وحين اندلعت تلك الثورات، أصبحت أفكار الأنوار، قاطرة العمل، للعهد الجديد. لكن الفكر في مرحلة ما بعد قيام الدولة القومية، اختلف جذرياً عمّا بشر به عصر الأنوار.
لقد بات الفكر، رديفاً للدولة، وفي كثير من الأحيان تابعاً لها. وقد انتقل لاحقاً من موقفه المثالي، حين توسعت أنشطة الدولة القومية، وكسرت الحدود، وبدأ عصر الاستعمار، لقد انتقل الفكر، من موقعه المثالي الطوباوي، إلى ما صار معروفاً بالبراجماتية، التي باتت سمة ملازمة للسياسة، وعلمها.
في هذا السياق، يمكن القول إن الاستشراق، ليس سوى محطة أخرى، من محطات التطور في العلوم السياسية وارتباطها بالسلطة القومية، وكانت طليعة الزحف الاستعماري للجغرافيا المجهولة من قبل. لقد بعّد العلم عن وظيفته الأخلاقية، وبات سلاحاً فتاكاً، في خدمة الزحف الأوروبي نحو بلدان العالم الثالث. وكلما توسعت الدولة القومية في أنشطتها، كلما زادت هيمنتها على الفكر، حتى تحول بشكل يكاد يكون كاملاً إلى أداة لتبرير نهجها وسياساتها.
بعد الحرب العالمية الثانية، شهد العالم تأثر شباب الجامعات في أوروبا وأمريكا، بالأفكار اليسارية الجديدة، كأفكار ألتوسير وغرامشي، بالتزامن مع اندلاع الحرب الباردة. وكان ذلك من أحد أسباب بروز المكارثية، بوجهها القبيح؛ حيث مورس إرهاب واسع ضد العلماء، الذين اتهموا باليسارية، وجرى طرد آلاف أساتذة الجامعات من وظائفهم. وسحبت كتب ماركس ولينين وألتوسير وغرامشي، وغيرهم من المفكرين اليساريين من المكتبات. لكن ذلك أدى إلى نتائج عكسية. فقد توسع انتشار تلك الأفكار، ولم يعد بالإمكان احتواؤها بالقسر.
لقد ألجأ ذلك إدارة الرئيس دوايت أيزنهاور، وبتشجيع من وزير خارجيته جون فوستر دلاس، وشقيقه ألان داس، إلى اجتراح حلول بديلة. أدركت الإدارة الأمريكية إلى أن الأفكار لا تحارب بالقمع، لكن بوجود أفكار بديلة. وأن خلو الغرب من فكر سياسي معاصر، هو السبب في اندفاع الشباب نحو الأفكار اليسارية. وكانت تلك مقدمة في نشوء العلم السياسي الحديث الذي يدرس بالجامعات حتى يومنا هذا، استعانت إدارة إيزنهاور، بأساتذة هربوا للغرب من أوروبا الشرقية وبمفكرين أمريكيين، وتم عقد مؤتمر علمي في العاصمة واشنطن، حضره، أشخاص لمعوا لاحقاً في توجيه السياسة الأمريكية، من أمثال صامويل هانتجتون، وألموند باول وسبني فيربا ووالت روستو. فواجهوا اليسار بعدد من النظريات، اتساقاً مع الرؤية الرأسمالية، التي تركز على التنوع، وقانون العرض والطلب، شملت تلك النظريات الثقافة ومراحل النمو، والبنوية، والنخبة. وصنفت ضمن أدبيات ما بعد الحداثة. وكان لها دور كبير، في توجيه الأحداث والأزمات السياسية التي جرت لاحقاً، والتأثر بها أيضاً، كالحرب الكورية وحرب والأزمة الكوبية، وحرب فيتنام.
هذا التطور في علم السياسة الغربي المعاصر، سيكون موضوع قراءة وتحليل في أحاديث أخرى قادمة.