بقلم: روعة قاسم – النهار العربي
الشرق اليوم- مثّل قرار إنهاء وزارتين في الجزائر للتعامل باللغة الفرنسية في المراسلات الصادرة عنهما، بالنسبة إلى البعض حلقة جديدة في مسلسل التصعيد بين بلد المليون شهيد وموطن فولتير، والذي بدأ مع اتخاذ فرنسا قراراً يقضي بتخفيض عدد التأشيرات الممنوحة لمواطني تونس والجزائر والمغرب. فقد كان رد الفعل الجزائري على هذا القرار صارماً ولافتاً وهو ما دفع بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى اعتبار أن الجزائر هي كيان مصطنع لم يكن له وجود قبل الاحتلال الفرنسي. وردت الجزائر بسحب السفير وإغلاق مجالها الجوي على الطائرات الفرنسية، وأخيراً بإنهاء وزارتين في الجزائر للتعامل باللغة الفرنسية في المراسلات الصادرة عنهما.
ويرى البعض أن هذه الخطوة الجزائرية وإن تميزت بالجرأة إلا أنها جاءت متأخرة بعض الشيء وما كان يجب انتظار حصول أزمة حتى يتم اتخاذ مثل هكذا قرار للقطع مع الثقافة الاستعمارية وترسيخ الهوية المحلية. فدولة مثل تونس على سبيل المثال بادرت إلى تعريب إدارتها بالكامل منذ بداية التسعينات من القرن الماضي مع الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وذلك رغم حاجتها إلى الدعم الاقتصادي الفرنسي والأوروبي ورغم انزعاج باريس في ذلك الوقت.
فرغم تنصيص الدستور الجزائري على أن العربية والأمازيغية هما اللغتان الرسميتان، إلا أن الوزارات الجزائرية، وباستثناء وزارة الدفاع، ما زالت تستخدم الفرنسية في مراسلاتها وبياناتها الرسمية، وهو أمر لا يجد له البعض تفسيراً مقنعاً، خصوصاً بعدما مضت ستة عقود بالتمام والكمال على استقلال البلد وتحرره من ربقة الاستعمار الفرنسي الذي أزهق الأرواح وخلف أكثر من مليون قتيل.
فهل يكون عدم اعتراف فرنسا بجميل وفضل البلدان المغاربية عليها، وهي التي نهبت ثرواتهم وحاربت بأبنائهم في الخطوط الأمامية في الحربين العالميتين وفي الهند الصينية، سبباً في تمرد هذه البلدان عليها للتحرر من هيمنتها الثقافية؟ أم أن الخطوة الجزائرية معزولة وهدفها فقط الضغط على فرنسا لتتراجع في مسألة خفض التأشيرات وأيضاً في دعم إنفصال بعض الأقاليم الجزائرية بحسب اتهامات الطرف الجزائري لباريس؟
إن ما هو أكيد أن الدعوات إلى التخلي عن الثقافة الفرنسية قديمة في المنطقة، فقد بدأ تعريب التعليم في تونس منذ عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة منذ بداية ثمانينات القرن العشرين مع وزير التربية فرج الشاذلي وبدفع من الوزير الأول محمد مزالي، ثم قام بن علي بتعريب الإدارة ولافتات المحال التجارية، ومنع استعمال الفرنسية في القنوات التلفزيونية الرسمية. كما طالب وزير التربية التونسي الأسبق ناجي جلول الذي شغل حقيبته في حكومة الحبيب الصيد مع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي بعدم اعتماد الفرنسية في التعليم والتخلي عنها لصالح اللغة الأنكليزية وهو ما كلّف الرجل خسارة منصبه بفعل ضغوط اللوبيات الفرنسية.
كما تتصاعد الدعوات في المغرب إلى القطع مع اللغة الفرنسية واستبدالها باللغة الإنكليزية باعتبارها لغة العلم والاقتصاد وتتحدث بها الأمم الأكثر تقدماً في هذا العالم وتسهّل اندماج المغاربيين في محيطهم العالمي وتواصلهم مع الآخر. وتلقى هذه الدعوات آذاناً صاغية خصوصاً لدى الفئات الشبابية مع تراجع فرنسا في كل المجالات وبروز قوى جديدة فاعلة ومؤثرة في العالم تتحدث لغة شكسبير كلغة رسمية أو لغة ثانية ولا يمكن التواصل معها بالفرنسية.
فهل سيواصل ماكرون تعنته ضارباً بمصالح فرنسا في مستعمراتها السابقة، عرض الحائط رغبة في كسب ود أقصى اليمين المعادي للمهاجرين وأملاً في الإستحواذ على جزء من كتلة ناخبي جان ماري لوبين؟ أم أنه سيرتدع ويدرك أن الفرنكوفونية الي تأجلت قمتها في جزيرة جربة التونسية آيلة إلى الزوال بمجرد أن تعود فرنسا إلى سلوكها وخطابها الاستعماري المتعجرف وتتخلى عن قوتها الناعمة المتمثلة في لغتها وثقافتها وأدبها وفنونها.
إن ما هو أكيد أن قرار خفض التأشيرات لدخول فرنسا والمخصصة لبلدان تونس والجزائر والمغرب هو قرار خاطئ باعتبار أن الحصة المخصصة لهذه البلدان الثلاثة وقبل التخفيض تُعتبر غير كافية وبحاجة إلى إعادة النظر نحو رفعها أكثر لا تخفيضها. وبالتالي فإن عواقبه ستكون وخيمة على الطرفين وليس فقط على البلدان المغاربية الثلاثة التي تمتلك بدورها أوراقاً عدة للضغط على مستعمرها السابق ومن ذلك التخلي عن اللغة الفرنسية التي يضيق نطاق استعمالها ويشعر كثير من ساكني المنطقة أنها باتت عائقاً أمام تقدمهم وتواصلهم مع العالم.