بقلم: حسن إسميك – النهار العربي
الشرق اليوم– لم يجتمع فقهاء اللغة حتى اليوم على تعريف وحيد وشامل لكلمة التطرف، إذ يتسع معناها كثيراً إذا تجاوزنا مجرد ربطها بالعمليات الإرهابية والحركات التكفيرية فقط، فالتطرف قد يظهر لنا اليوم على هيئة تصرف ما أو فكرةٍ تجول ببال أحدهم، يرمينا بها لرغبة منه بقتل أفكارنا، إما لعدم قدرته على احترامها ونقاشها، أو فقط لمجرد جهله بها.
لطالما شغلني البحث في دوافع ومحركات ظهور الفكر المتطرف داخل مجتمعاتنا أو عند أفراد محددين ضمنها. وللأسف كثيرة هي هذه المحركات، بعضها ناتج عن مشكلات وبعضها الآخر عن أخطاء، وقد يرتبط بعضها بالإهمال، ويأتي كثير منها نتيجة الجهل. من هذه الدوافع والمحركات ما هو مباشر، ومنها ما هو غير مباشر، بل وغير متوقع حتى، وأبرز الأمثلة على القسم الأخير هو التأثير الخفي لأغلب الأنظمة التعليمية العربية في التشجيع على التطرف الفكري، خاصة في المراحل التي تسبق التعليم الجامعي التخصصي.
ويقدم بعض “التعليم العربي” للتطرف أهم أدواته وأسبابه، وبالرغم من تفاوت التأثير المباشر للمناهج بين الدول العربية على التطرف، لوجود تفاوت ثقافي وعلمي ومعرفي أساساً فيما بينها، تبقى هذه الأسباب موجودة وتعمل على إنتاج متطرفين بشكل دائم، يمكن أن يكون تطرفهم ثقافياً أو سياسياً أو دينياً وبشكل يلغي الآخر كلياً.
بداية وقبل كل شيء، تفتقر مناهجنا، رغم أنها تبدو واسعة ومتنوعة وغنية بالمعرفة العلمية، إلى التركيز على المعرفة الإنسانية بكل فروعها، الاجتماعي منها والثقافي والفلسفي والنفسي والوطني، إذا لم نقل السياسي أيضاً.
تبدأ القصة في البداية من تلقين الطالب دروس التاريخ والهوية بنمط سردي يسعى لإبراز الهوية الدينية أو اللغوية أو العرقية، ولا مشكلة في ذلك إلا حين يأخذها المتعلمون وكأنها معطى نهائي ناجز، دون تحليل منطقي نقدي، وتُختزن المعلومات في ذاكرة الطلبة على أنها “الصواب” الوحيد والثابت الذي يعرفونه، دون أن تراعي تلك المناهج فهم “الهوية” كحالة تشكل مستمرة تبعاً للتغيرات الكبيرة التي تطرأ على المجتمعات، وكنتيجة للتطور والانفتاح الذي يتجاوز حدود الدول وتاريخها مع تعاظم قدرات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في كسر كل الحدود وطرح كل الأفكار أمام الجميع.
في الحقيقة… سيكون وقع الاصطدام كبيراً بأول فكرة قد يواجهها “مشروع المتطرف” خارج ما تعلمه في المدرسة، فكيف إذا لعبت الأسرة والوسط الاجتماعي الذي ينشأ فيه الفرد أدواراً داعمة في تكريس هذه المواجهة! خاصة في ظل تجريم مناقشة الأفكار أو تحريمها، بل وفرض التسليم بها دونما تشكيك أو محاكمة!
مثلاً، من الخطر جداً أن يترك الطفل أو الطالب في مراحل التعليم الأولى لينمو ضمن فكرة سياسية واحدة أو مذهب اقتصادي/ أو عقائدي/ واحد يأخذه منذ صغره ضمن مدرسته على أنه الصواب، هنا ستكون المشكلة الحقيقية، إن كان نظام تعليمه يدعم الاشتراكيين فلن يتقبل وجود الرأسمالي في ما بعد، وإن كان من أنصار اليمين سينظر لليساريين على أنهم عملاء وخونة.
في الوقت ذاته، لا يمكن إغفال أن مؤسساتنا التعليمية سلطوية بطبيعتها، لا تراعي الحدود الدنيا من التميز الفردي وضرورة المساعدة في إبرازه، فيتربى الطفل على أنه جزء من الجماعة، وأن هذه الجماعة تمتلك “الحقيقة المطلقة” وهي دائماً على حق، ويجب حمايتها والدفاع عن أفكارها أياً كانت هذه الأفكار.
وعلى صعيد مواز يتعلم الطفل أن يتلقى المعلومة تلقيناً، وأن المعلم مصيب دائماً ولا تجوز مراجعته أو مخالفته، فيكبر المتعلم معتاداً على أن يتبنى أفكار الآخرين دون نقاش، لا يشك بالمعلومة، ولا يتعلم طرح السؤال ولا المناقشة ولا الحوار، يُلقن المعلومة ليدافع عنها ويعادي كل من يخالفها، فيصبح بذلك كالتربة الخصبة الجاهزة لزرع أيةِ أفكار مهما بلغ مستوى تطرفها، وهذه “التربة” هي المفضلة لدى كل التيارات المتطرفة، سواء الدينية منها والفكرية والسياسية.
للأسف هذا ما يجري في عدة دول عربية ذات مناهج تعليمية ثقافية تقوم على “فكرة واحدة”، فتوسعها قدر المستطاع وتركز عليها، دون أن تترك لبقية الأفكار مساحة كافية ليتعرف عليها الطفل لتبقى مجهولة بشكل كلي بالنسبة له.
إذن، الأمر أبعد وأعمق مما نتصور، فتخيّل أن إغفال فكرة مقابل فكرة خلال العملية التعليمية قد تتيح للتطرف الفرصة للظهور، فما بالك عند غياب حلقات النقاش والمناظرات الثقافية بمختلف القضايا الاجتماعية والسياسية وغيرها، بالطبع سيتمكن التلقين من التحكم بكامل توجهات الأفراد، لتصبح أي فكرة قاعدة ثابتة، ويصبح نقاشها أو استثناءها “كفراً”.
الأمثلة والحالات كثيرة.. وأسبابها أكثر، وبالرغم من صعوبة تلخيصها وحصرها ببداية ونهاية، لكن يمكن تخيل عظم حجمها بمجرد رؤية تصميم مدارس بعض الدول العربية، والمبنية كالسجون بألوانٍ قاتمة وأسوار عالية وأبواب موصدة، وكأننا نضافر كل العوامل لندفع باتجاه التطرف شكلاً ومضوناً.
لقد وصل التطرف في مجتمعاتنا للحد الذي يمكنه من تزوير الحقائق، ومناصرة الباطل وإلغاء الآخر، ودعم المستبدين على حساب الضعفاء، هذا الخطر الوجودي هو في جزء منه صنيعتنا نحن، وبإمكاننا نحن أيضاً تلافيه، وربما يكون التفكير بنظمنا التعليمية العربية هو الخطوة الأولى والأهم في مواجهة التطرف.