بقلم: د. ماجد السامرائي – العرب اللندنية
الشرق اليوم– وفق المنطق الإنساني والديمقراطي والحقوقي، وليس الإجرائي التقني، أثبت شعب العراق في مقاطعته للانتخابات الحالية أنه هو الأصدق من الطبقة السياسية الحاكمة منذ عام 2003 التي تعاملت مع العملية الانتخابية كأداة لتجديد حكمها وليس بإيمان حقيقي بالديمقراطية.
ليس مبالغة القول إن شعب العراق، في رفض أكثر من 80 في المئة من مجموع سكانه الذهاب إلى صناديق الاقتراع، إنما وجّه واحدة من أشد العقوبات إيلاماً للأحزاب الولائية التي تحاول الآن لملمة صدمة تخلّي مواليها عنها، وأغلبهم من الفقراء والمحرومين الذين اكتشفوا لعبة الضحك عليهم من قبل قادة الميليشيات وأغطيتها السياسية البرلمانية بما سميت بكتل المقاومة، حيث أعماها غرورها ودفعها إلى التخلي عن جمهورها المفترض في الوقت الخطأ، فحصلت الكارثة.
إرادة شعب العراق وثورة الشباب انتصرت في العاشر من أكتوبر 2021، رغم عدم امتلاكها الإمكانات المالية المليونية وضغط السلاح. ورغم غياب غطاء القوة السياسية المنظمة لفعالياتها التلقائية، ثبتَ واقعياً، وليس مجرد شعارات دعائية مدفوعة الثمن، انتصار وشاح استشهاد ثمانمئة شاب وشابة ارتفعت على صدور أمهاتهم وآبائهم شعارات “نريد وطن، وإيران برّة برّة”. كما انتصرت حاجات الفقر والجوع على قوى الاستبداد والفساد والخضوع التام للأجنبي.
الانتخابات الأخيرة تكشف أن الصراع بين القيادات الشيعية هو على زعامة السلطة التي تعني الاستحواذ على المال والنفوذ وليس خدمة الشعب، وأن الرقم الأول في سلطة الحكم يجب أن يكون موالياً لطهران قبل ولائه للعراق
المفاجأة الصادمة لم تقتصر على خصوم الشعب الذين أعماهم غرور السلطة فقط، بل طالت كثيرا من المتابعين والمراقبين، وهي استخدام الشعب لجزء بسيط من مخزون أسلحته رفعه بوجه جلاديه وسارقيه بمقاطعته للانتخابات وتبريد ماكنتها البشرية رغم حملات التشكيك الهائلة، حيث اضطر المتجبرون في النهاية إلى إعلان طلاقهم مع تلك الوسيلة السحرية “الانتخابات”، والبحث وفق عقلية الخاسر عن وسائل أقلُّها ضرراً وكشفاً لأغطيتهم اللجوء إلى السلاح والشارع لتغيير معادلة الخسارة العددية، ليؤكدوا مجدداً أنهم لم يخرجوا عن عقلية المافيات، ولا علاقة لهم بالسياسة والديمقراطية.
انكشفت جميع الأغطية مرة واحدة أمام العالم. من كانوا يدّعون عشقهم للديمقراطية ولمظهرها الانتخابي أعلنوا أنها لم تعد وسيلتهم للحفاظ على السلطة رغم ما يشاع تقليدياً عن صراع “شيعي – شيعي” حول المتحكم الأول في السلطة. قد يكون هذا صحيحاً بجانبه الشكلي المرحلي، لكن الواقع يقول إن الانهزام اللوجستي لنظام ولي الفقيه الإيراني تحقق لسببين: الأول، فقدان الجنرال قاسم سليماني. والثاني، بسبب ثورة أكتوبر العراقية.
لم يكن الرأي العام العالمي مُطلّعاً على الكثير من تفصيلات وحقيقة الطائفية المقيتة التي دمرّت البلد. جزئيات كثيرة ظهرت خلال هذه الأيام في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث نقلت تصريحات متعددة المستويات عمّن يدعون أنهم سياسيون يحذرون فيها من مخاطر ما يسمونه “الخوف من ضياع دولة الشيعة في العراق الموالية لطهران” إلى درجة أن أحدهم يدعى جاسم محمد جعفر كان وزيرا في الحكومة السابقة أعلن في مقابلة تلفزيونية “إن مقتدى الصدر لا يمثل الشيعة. دولة الشيعة في العراق مهددة بالزوال بعد ألف وأربعمئة عام على أول حكومة للشيعة بقيادة علي بن أبي طالب”. وآخرون مرروا رسائل مفادها أنهم يدافعون بالسلاح للحفاظ على دولتهم الشيعية وعن حشد الشيعة.
اضطرت الأحزاب الولائية بعد هزيمتها الانتخابية إلى الإعلان عن حقيقتها بغربتها وعدم اعترافها بهوية الوطن العراقي واستقلاله، رغم أن هذه الدولة المزعومة، دولة عصابات النهب والقتل التي عاقبها شعب العراق، كانت تفتخر بانتشار أعلام ورايات خامنئي في شوارع بغداد والمدن العراقية الأخرى وبولائها لطهران خامنئي وليس للعراق.
ظاهرة عرضية أخرى أكدتها الانتخابات الأخيرة تكشف أن الصراع بين القيادات الشيعية هو على زعامة السلطة التي تعني الاستحواذ على المال والنفوذ وليس خدمة الشعب، وأن الرقم الأول في سلطة الحكم يجب أن يكون موالياً لطهران قبل ولائه للعراق.
الآن يستعيد نوري المالكي موقع الصدارة في نتائج الانتخابات بعد مقتدى الصدر، حيث اشتغل بنشاط رغم ما أحيط بحكمه من فضائح ثماني سنوات من الفساد والتورط في كارثة احتلال الموصل من قبل داعش، وسبق لنائبه حيدر العبادي أن انتزعها منه غير مبال بالخروج من حزب الدعوة لصالح السلطة.
العقدة الحالية والمشكلة التي تواجه قوى البيت الشيعي هي التنافس بين كل من الصدر والمالكي للاستحواذ على حصة الكتلة الأكبر، وهي العقبة المتكررة الغامضة التي أوجدها دستور 2005، وفشلت طهران إلى حد الآن في التوفيق بينهما، ولم يتمكن القانون الانتخابي الملتبس لعام 2020 من حلها، مما أعاد دوران الأسطوانة ذاتها في ترجيح الكفة الأكبر من الداعمين السنة والأكراد بما يحقق لهم مكاسب أكثر.
يبدو أن المالكي نجح في إقناع طهران بلعبه دوراً جديداً لصالحها وتعزيز نفوذها في العراق بعد تراجع هادي العامري وميليشيا السلاح، وكأن لسان حاله يقول لأولياء أمره “هل تأكدتم الآن أنني حصانكم الرابح في العراق، لما أمتلكه من إمكانيات تنظيمية وعلاقات واسعة، لكي تستعيدوا ثقتكم بي وتذكرون ما قدمته لكم من وقائع نفوذكم في العراق بين عامي 2006 – 2014، ولا تراهنوا على مقتدى الصدر واحتمالات التجديد لمصطفى الكاظمي”. ما يهم نظام خامنئي بقاء نفوذه واحتلاله للعراق الذي أصبح مانعاً جدياً من سقوطه، ولا يهمه لون ذلك الحصان، المهم أن يكون من شيعته وليس من شيعة العراق.
تداعيات صدمة القيادات الشيعية الولائية بالهزيمة الانتخابية لن تتوقف عند لعبة الكتلة الأولى في البرلمان، وهل ستكون الكلمة “الشيعية” الأخيرة للفائز مقتدى الصدر؟ بل إلامَ ستؤول تداعيات الخطاب الطائفي (شيعي وسني وكردي) والسياسات التنفيذية التي ألحقت الأذى بشعب العراق وقيمه وهويته منذ عام 2003، والتي انتفض عليها شبابه بقوة في أكتوبر 2019؟
السؤال المهم الذي يشغل العراقيين، رغم معرفتهم المبدئية للجواب، هو حول ما وضعه العالم الغربي والولايات المتحدة من إمكانيات بثقل هائل، سياسي وتنظيمي، خلال موسم الانتخابات لصالح النظام السياسي القائم لاعتبارات سخيفة مزدوجة المعايير، رغم علمهم الموّثق بأن زعامات الأحزاب والميليشيات متورطون في قتل شعب العراق، وضحايا ثورة أكتوبر 2019 شاهدون على ذلك. وكذلك في تجويعه وحرمانه من أدنى الحقوق الإنسانية. ألم ينقل إليهم وكلاؤهم وجهاتهم الاستخباراتية وأقمارهم الصناعية حجم الفضيحة المدوّية لهذه الأحزاب التي تجلت في عزوف العراقيين عن المراكز الانتخابية؟
إرادة شعب العراق وثورة الشباب انتصرت في العاشر من أكتوبر 2021، رغم عدم امتلاكها الإمكانات المالية المليونية وضغط السلاح. ورغم غياب غطاء القوة السياسية المنظمة لفعالياتها التلقائية
هم يعلمون لكنهم يغمضون عيونهم، وفي مقدمتهم واشنطن، حيث تورط رؤساؤها السابقون في صفقة جلب هؤلاء للحكم عام 2003 مع ما جلبه ذلك من تراجع متوقع للمكانة الأميركية في المنطقة. رغم ذلك يواصلون هذا الدعم غير المبرر في ظل إدارة بايدن الذي يدعي معرفة ميدانية بالملف العراقي وسارقي قوت الشعب، ومع ذلك يواصل نهج تدمير العراق ومحوه من خارطة الحياة المعاصرة.
أما العرب فلهم قصة مؤلمة أخرى.. لا تقدم بعض الحكومات العربية النافذة أي مبرر أخلاقي مستند على حقائق العروبة وروح الأخوة التي دائماً ما تتحدث بها، لكي تدعم القتلة والفاسدين من الحكام في بغداد، وتساعدهم بمختلف الإمكانيات السياسية والإعلامية على تجديد سلطتهم مؤكدة تخليها عن شعب العراق.
للعراقيين دين على أشقائهم في الخليج دفعوه من دماء مئات الألوف من شبابهم لوقف تدفق جيش إيران خلال حرب 1980 – 1988. ليس مبالغة القول إن بقاء أشقاء الخليج مُنعمين بالحكم وبأمان شعوبهم إنما يعود لشعب العراق. الأيام المقبلة ستذكرهم بذلك. ستعود فرضية مخاطر تهديد النظام الإيراني مجدداً، ولكن دون سد عراقي هذه المرة. بل قد يكون هذا التهديد لوجستياً من داخل الأراضي العراقية. تهديدات أحد عناصر الميليشيات التلفزيونية يوم الإثنين بقصف الإمارات من داخل العراق شاهد على ذلك.
نظام طهران القائم على نظرية تصدير الثورة للعالم العربي، ودول الخليج خاصة، لا يتمكن من الاستمرار في الحكم دون إثارة الفوضى والخراب في هذه المنطقة الحيوية. لذا يجب ألّا تنخدع الرياض بدعوات الحوار الإيراني المبطن، إلا إن هي أرادت التفريط بوجودها بعد تهديم السد العراقي. فهل وصلت رسالة العراقيين إلى العرب والعالم؟