بقلم: د. وحيد عبد المجيد – الاتحاد الإماراتية
الشرق اليوم- ما أبعدها المسافةُ بين اختلاف يُدار بطريقة موضوعية ومن أجل المصلحة العامة ومماحكة ينطلق القائمون بها من مواقف مُسبقة سعياً إلى تحقيق مصالح تخص أشخاصاً أو جماعات أو أحزاباً.
يُعطي تعاطي المفوضية العليا للانتخابات في ليبيا مع قانون الانتخابات الرئاسية (القانون رقم 1 لسنة 2021)، والانتخابات التشريعية (القانون رقم 2 لسنة 2021)، ورد فعل مجلس النواب على طلبها إجراء تعديلات في كل من القانونين، درساً في الاختلاف الموضوعي المدفوع بالمصلحة الوطنية. وفي المقابل، كان تعامل المجلس الأعلى للدولة مع القانونين نموذجاً للمماحكة المدفوعة بمصلحة سياسية لبعض الأطراف الليبية التي تسعى إما إلى فرض منظومة قانونية محبوكة على مقاسها، أو تعطيل الانتخابات.
وبخلاف ما فعله المجلس الأعلى للدولة حين فتح النار على مجلس النواب، بدلاً من مناقشة القانونين وإبداء الرأي فيهما بشكل موضوعي، قامت المفوضية العليا للانتخابات بدراستهما، وطلبت إجراء عدة تعديلات في كل منهما.
وتفاعل مجلس النواب بصورة إيجابية مع مقترحات المفوضية، وناقش التعديلات المتضمنة بها، وتغلب صوت العقل في داخله عندما تبين أن الهدف منها سد بعض الثغرات الفنية التي يمكن النفاذ منها إلى الطعن على القانونين، وخاصةً قانون الانتخابات الرئاسية. ولم يعترض المجلس سوى على مُقترحين لإجراء تعديل بشأن الانتخابات التشريعية، وثان فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية، من بين نحو عشرة تعديلات طلبتها المفوضية.
ومثلما أقر المجلس مقترحات التعديلات التي اقتنعت غالبية أعضائه بفائدتها وضرورتها، اعترض على مُقترحين لعدم ملاءمتهما وليس انطلاقاً من موقف سياسي مُسبق.
ويتعلق المُقترحان المُعترض عليهما بالسماح بالاقتراع بواسطة البريد، وتكييف اللوائح التنظيمية والإجراءات التنفيذية التي تُصدرها المفوضية العليا للانتخابات. ويبدو الاعتراض منطقياً في كل من الحالتين. ورغم أن الاقتراع بالمراسلة انتشر في عدد متزايد من بلدان العالم منذ تفشي فيروس كورونا، من أجل التيسير على الناخبين غير الراغبين في الذهاب إلى مراكز الانتخابات، لم يثبت نجاحه في كل الحالات وحدث خلاف عليه في دول ديمقراطية عريقة.
وحدث ذلك في الولايات المتحدة التي سبقت العالَمَ كلَّه إلى إجراء انتخابات لم تنقطع منذ عام 1789، إذ شكك سياسيون وناخبون في سلامة بعض الإجراءات المُستخدمة في الاقتراع بواسطة البريد، وخاصةً «الجمهوريون» وأنصار الرئيس السابق دونالد ترامب حين كان مرشحاً في انتخابات نوفمبر 2020.
ولهذا يحق لمجلس النواب، ولكل مَن يحرص على نجاح انتخابات مصيرية بالنسبة إلى ليبيا، أن يتجنب ما قد يفتح باباً إضافياً لمحاولات عرقلة هذه الانتخابات أو التشكيك في نتيجتها، خاصةً في غياب قدر كاف من الاطمئنان إلى قدرة مكاتب البريد على أداء هذه المهمة الصعبة بعد التدهور الذي حدث في مؤسسات الدولة الليبية خلال السنوات العشر الأخيرة، فيما لا يتسع الوقت لمراجعة أوضاع هذه المكاتب.
ومن المفهوم أيضاً أن يعترض المجلس على مُقترح لدمج لوائح المفوضية وإجراءاتها في قانونَي الانتخابات بحيث تكون جزءاً لا يتجزأ منهما. فقد اقترحت المفوضية هذا التعديل لتجنب طعن المُعطلين على لوائحها وإجراءاتها. لكن غالبية المجلس رأت أن قبول المقترح يمكن أن يجعل القانونين عُرضة للطعن، وهو ما يُعد أخطر من الطعن في إجراءات المفوضية. وهذا نموذج للاختلاف الموضوعي المحكوم بالمصلحة الوطنية. ولهذا تفهَّمت المفوضية موقفَ المجلس الذي أقرَّ في الوقت نفسه معظم المقترحات التي قدمتها.
وليت كل الخلافات بشأن الانتخابات وغيرها تُدار بهذه الطريقة من أجل مصلحة ليبيا وشعبها. لكن أصحاب المصالح الضيقة، والخائفين من انتخابات تكشف حجمهم الحقيقي، لا يُعيرون انتباهاً لمصلحة وطن وآلام شعب طالت محنته.