بقلم: د. منار الشوربجي – المصري اليوم
الشرق اليوم – المعركة الدائرة حول أجندة «بايدن» الاقتصادية ذات أبعاد عالمية. فهي في جوهرها معركة ضد أسس النظام الاقتصادي العالمي الراهن بكل تشوهاته التي تضر بالأغلبية الساحقة من سكان العالم.
فـ«بايدن»، الذي ظل طوال حياته يمثل يمين الوسط في حزبه، يتبنى اليوم سياسات اقتصادية أقرب للتيار التقدمي. وهو موقف سياسي لا يمثل، في تقديري، اختيارًا تقدميًا للرئيس الأمريكي، وإنما موقف فرضه عليه فرضًا الواقع الاقتصادي في بلاده.
فقد تسلم «بايدن» الرئاسة في أسوأ مراحل تفشي وباء كورونا في بلاده. وهي لم تكن مجرد أزمة صحية راح ضحيتها مئات الآلاف وأضرت بسمعة أمريكا دوليًا، وإنما أزمة اقتصادية أيضًا لا تقل خطورة، حيث أدت لفقدان الملايين وظائفهم أو مقدراتهم الاقتصادية عمومًا. وهو الأمر الذي كان يتطلب تدخلًا حكوميًا قويًا. وقد تسلم «بايدن» الرئاسة وسط مرحلة جديدة من مراحل أفول الإمبراطورية الأمريكية. فمثلها مثل إمبراطوريات سابقة، ظل التمدد الخارجي المفرط للإمبراطورية الأمريكية أكبر بكثير من قدرتها على تحمل تكلفته الباهظة، فتأثر الداخل الأمريكي بقوة.
ففي الوقت الذي كانت فيه منخرطة خارجيًا في عمليات لـ«بناء الدولة» في أكثر من بلد بالعالم كانت البنية التحتية الأمريكية في الداخل تزداد ترديًا، بما يؤثر على قدرة أمريكا التنافسية على الصعيد الاقتصادي الدولي. وقد أدى ذلك كله لتفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، التي كانت موجودة أصلًا، وصارت الفجوة في مستويات الدخل والمعيشة هائلة، خصوصًا مع الخفض الضريبي المذهل في عهد ترامب، والذي لم يستفد منه سوى الشركات العملاقة والأمريكيين الأكثر ثراء. وكأن ذلك لم يكن كافيًا، فقد ازدادت وتيرة تعرض الولايات المتحدة للكوارث الطبيعية الناجمة عن كارثة المناخ العالمية.
ومن هنا، فرض الواقع نفسه فرضًا على الرئيس الجديد. فقد تحتم على الدولة أن تلعب دورًا قويًا في الاقتصاد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بدءًا من تقديم إعانات للبطالة على أوسع نطاق، ووقف طرد من يعجزون عن دفع أقساط منازلهم، والسعي لإيجاد وظائف جديدة، فضلًا عن تحديث البنية التحتية والانسحاب دوليًا ثم توجيه المزيد من الإنفاق للخدمات العامة والبرامج الاجتماعية، وإيجاد البدائل الواقعية لتحويل الاقتصاد الأمريكي نحو الطاقة البديلة، والسعي الحثيث لمواجهة مخاطر التحولات المناخية. وقد مثلت تلك البنود جوهر أجندة «بايدن» التشريعية التي أطلق عليها «البناء بشكل أفضل». فهي تتضمن ميزانية فيدرالية جديدة تعكس تلك الأولويات، فضلًا عن مشروع قانون لإصلاح البنية التحتية. وهي الأجندة التي تواجه اليوم مقاومة شرسة ليس فقط من جانب الجمهوريين بالكونجرس وإنما من جناح يمين الوسط في الحزب الديموقراطي، حزب «بايدن».
وتلك المقاومة، في تقديري، هي مقاومة لأي نوع من التراجع عن هيكل الاقتصاد النيوليبرالي الذي يقوم في جوهره على إطلاق يد السوق دون قيد أو شرط، وتقليص دور الدولة في دعم البرامج الاجتماعية التي تستفيد منها الأغلبية الساحقة من الطبقات الوسطى والدنيا. وهو النظام الاقتصادي الذي بدأ، أمريكيًا وبريطانيًا، في الثمانينيات حين تزامن عهد رونالد ريجان مع عهد مارجريت تاتشر. ثم صار ذلك النظام هو النظام الاقتصادي العالمي طوال الأربعين عامًا الأخيرة.
ولايزال «بايدن»، حتى الآن، متمسكًا بتلك الأجندة، رغم استعداده لتقليص حجم البرامج الاجتماعية، لا التخلي عنها بالكامل. وستكشف الأسابيع القليلة القادمة ما إذا كان الرئيس سيقدم تنازلات أكثر عمقًا، فتنتهي المعركة إلى تبني مسكنات قصيرة الأجل لأزمة جوهرية، أم ستمثل سياسات إدارته أهم التحديات الحقيقية لنظام اقتصادي عالمي ظالم؟