الرئيسية / مقالات رأي / هل ما زالت فرنسا قادرة على أن تجعل نفسها مسموعة في هذا العالم؟

هل ما زالت فرنسا قادرة على أن تجعل نفسها مسموعة في هذا العالم؟

بقلم: احمد نظيف – النهار العربي

الشرق اليوم- على نحو غير مسبوق دخلت السياسة الخارجية الفرنسية خلال الآونة الأخيرة في سلسلة من المواجهات الاستراتيجية، تحت تأثير من الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي لم يخفِ منذ وصوله إلى السلطة عام 2017 رغبته في إعادة تقوية النفوذ الفرنسي دولياً، بعد سنوات من خفوت الوهج الفرنسي في مناطق تأثيره التقليدي. لكن هذه المواجهات، التي تحدث في مناخ دولي عاصف، لم تكن وليدة اللحظة، بل حصيلة مسار طويل من التحولات عاشتها السياسات الخارجية الفرنسية منذ نهاية الحرب الباردة.

في مؤلفه الجديد يحاول الدبلوماسي السابق وسفير فرنسا في دمشق بين 2006 و2009، ميشال دوكلوس، أن يعيد رسم هذا المسار الطويل والمتعرج ضمن السياق الذي واجهته فرنسا جذرياً خلال العقود الأخيرة، في عالم اهتزت موازينه الدولية، من سقوط جدار برلين عام 1989، إلى أزمة فيروس كورونا. انفصال الصين، “نزع الطابع الغربي” عن العالم، المنافسة التكنولوجية الجديدة، تغير المناخ، والعديد من الاضطرابات التي تنطوي على مخاطر فقدان التأثير بالنسبة الى فرنسا، في ظل السياسة الخارجية التي يقودها إيمانويل ماكرون باندفاع، من السيادة الأوروبية إلى استراتيجية المحيطين الهندي والهادئ، عبر سياسة أفريقية جديدة، لكنها تكافح من أجل أن تؤتي ثمارها.

يرسم ميشال دوكلوس صورة لفرنسا التي يُنظر إليها على أنها تتراجع على الساحة الدولية، والتي لم تعد مذاهب سياستها الخارجية الموروثة من الماضي تتوافق مع الحقائق الحالية في مواجهة حجم التحديات، داعياً الى إعادة تقييم أولويات العمل الدولي، ومتسائلاً في الوقت نفسه: هل ما زالت فرنسا قادرة على الدفاع عن مصالحها؟ هل ما زال بإمكانها أن تجعل نفسها مسموعة في هذا العالم المتغير؟

أزعجت نهاية الحرب الباردة البوصلة الاستراتيجية التي وجهت السياسة الخارجية لباريس. هذا الخط من “سياسة العظمة” الذي أسسه الجنرال ديغول، لتحرير نفسه من قبضة كتلتين، ساد بين خلفائه في سياق تغير عميق في هذه الأثناء. يقدم الكتاب تحليلاً مفصلاً للسياسات الخارجية التي نفذها الرؤساء الذين خلفوا ديغول، ويسلط الضوء على القاسم المشترك “لتجاوز يالطا” الذي يدفعهم. فقد تسبب انهيار الكتلة الشرقية في تعطيل هذه البوصلة الاستراتيجية الفرنسية. وجدت فرنسا، القوة العالمية التي يجاوزها العديد من المنافسين، نفسها معزولة أكثر فأكثر على الساحة الدولية، بين العولمة “في مسيرة قسرية” والأعمال الفاشلة تجاه الصين وروسيا. لقد أصبح العمى الاستراتيجي، المشبع بالغطرسة والسذاجة، الذي أظهرته الديموقراطيات الغربية في فجر القرن الحادي والعشرين، أرضاً خصبة للنماذج المتنافسة في العالم الليبرالي.

“إذا كان هناك درس واحد فقط يمكن تعلمه من سنوات ماكرون، فسيكون كما يلي: في عالم اليوم، تمتلك فرنسا استثنائياً فقط الوسائل للعمل بمفردها”. هكذا يشرح دوكلوس عقيدة ماكرون الخارجية، لكن ما هي الاستنتاجات التي يمكننا استخلاصها من سياسة ماكرون الخارجية؟ بادعاء أنه ينتمي إلى تقليد”ديغول – ميتران”، وهو أوروبي ملتزم وداعم للتعددية، فإن الرئيس الثامن للجمهورية الخامسة يتناسب جيداً مع استمرارية أسلافه، ولا يؤدي إلى تحول كبير في السياسة الخارجية. ومع ذلك، لا يفشل ماكرون في ترك بصمته الشخصية عليها، والتي تتميز بتغيير في الأسلوب بقدر ما تتميز بتجديد المفاهيم.

ويحدد دوكلوس خصال الرئيس الفرنسي في سياسته الخارجية بأنه يدّعي حرية معينة في العمل والنبرة مقارنة بالأنماط التقليدية، والتزاماً شخصياً مكثفاً وأسلوباً دبلوماسياً قائماً على الحوار مع جميع الأطراف، وهو ما يعرفه المؤلف بأنه “واقعية القطيعة”. وهي طريقة تكافح لتؤتي ثمارها، كما في تعاملها مع بقية القوى – لا سيما محاولتها التقارب مع روسيا – أو عملها في منطقة الساحل أو إدارتها للأزمات في ليبيا وسوريا. كانت النتائج أكثر إقناعاً في مجالين من مجالات العمل، السيادة الأوروبية والتعددية الفعالة، التي استحوذ عليها الرئيس الفرنسي حقاً. ويرى الكاتب أنه في مواجهة بيئة تؤدي فيها المنافسة الجديدة بين الشرق والغرب والتحولات التكنولوجية والمخاطر المناخية إلى اضطرابات مستمرة، يجب على فرنسا أن تضع أولويات استراتيجية جديدة للعب دور يتناسب معها وممارسة تأثير حقيقي. ويجب أن يكون الدافع الأساسي لهذه السياسة الجديدة هو ظهور سيادة أوروبية حقيقية، وهو تعهد أساسي بالدفاع عن مصالح باريس وإعادة هيكلة اقتصادها. كما يجب أن تدفع الواقعية الاستراتيجية أيضاً فرنسا، مثل أوروبا، لإعادة بناء حوار بناء مع الولايات المتحدة، ويكون الهدف إعادة صوغ العلاقة عبر الأطلسي حول القضايا الرقمية والمناخية، وتوزيعاً جديداً للأدوار من الناحية الجيواستراتيجية. فالموقف الذي يجب أن تتبناه فرنسا تجاه الصين – من خلال المنظور الأوروبي وعبر الأطلسي – يشكل الأولوية الثالثة لتجديد عملها على الساحة الدولية.

وأخيراً، يرى دوكلوس أن الواقعية الاستراتيجية تسير من خلال توازن دقيق بين الصلبة والقوة الناعمة، لافتاً إلى أن هذه الاستراتيجية يجب أن تظل فاعلاً سياسياً عسكرياً مع تطوير نفوذ فرنسا في مجال الاقتصاد الجغرافي، والحفاظ على رسالتها كمدافع عن التعددية، وكذلك تخيل “سياسة خارجية للشباب”، أي تحديث مبادئ التنوير في شروط أسلوب حياة غير غربي ورقمي. في ضوء هذه المبادئ التوجيهية العريضة، يمكن لفرنسا إعادة تأسيس خط متماسك للسياسة الخارجية من أجل لعب دور يتناسب مع تاريخها وممارسة تأثير حقيقي، بحسب ميشال دوكلوس.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …