بقلم: عريب الرنتاوي – موقع الحرة
الشرق اليوم– انتهت الانتخابات العراقية المبكرة، بيد أن الجدل بشأن نتائجها لم ينته بعد.. الخاسرون من مختلف الأطياف والمرجعيات، توحدوا خلف اتهام مفوضية الانتخابات بالانحياز و”قلة الكفاءة”، صدر ذلك عن تيار “الفتح – الحشد الشعبي” المقرب من إيران، وهو الخاسر الأكبر في الانتخابات، وشمل الحزب الإسلامي العراقي (الإخوان المسلمون) ولم يشذ التيار الوطني – المدني – الليبرالي بزعامة إياد العلاوي عن القاعدة، على الرغم من مقاطعته المبكرة للانتخابات، شأنه في ذلك شأن شيوعي العراق وبعض قوى “انتفاضة تشرين”.
لا ندري بعد، كيف ستنتهي عمليات استكمال العد والفرز، ولا النتائج التي ستخرج بها عمليات إعادة العد والفرز، وما إذا كانت ستراعي بدورها معايير نزاهة واستقلالية الإدارة الانتخابية، أم أنها ستخضع للضغط والابتزاز الممارس عليها من أطراف محلية وخارجية فاعلة، فتلجأ إلى الاسترضاءات وتدوير الزوايا الحادة… المؤكد أن فارقاً سيطرأ على النتائج النهائية سيجعلها مخالفة للنتائج الأولوية، وإن كان السؤال حول حجم هذا الفارق، سيظل قائماً.
على أية حال، ثمة هزيمة انتخابية ألحقت بالتيار الأكثر التصاقاً لإيران، المندرج في سياق استراتيجيتها العراقية والإقليمية، على أن الهزيمة لم تطال هؤلاء وحدهم، فثمة أطراف أخرى، لعبت أدواراً متفاوتة في عراق ما بعد 2003، يكاد حضورها في البرلمان العراقي أن يندثر، مثال ذلك “التيار الليبرالي – العلاوي، إخوان العراق وشيوعيّه”.
مقابل ذلك، بدا تيار “التشيع العربي”، ممثلاُ بالبيت الصدري، هو الفائز الأكبر فيها، وحقق عرب العراق من السنة، نتائج متقدمة تجعلهم يتحدثون بصوت واحد تقريباً بعد سنوات من الفرقة والمصادرة والتهميش، فيما أنجز أكراد العراق، اختراقاً ملموساً، قادته النتائج المفاجأة للحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني… قراءة في اتجاهات هذه الكتل الثلاث، ومواقفها الإقليمية والدولية، تشي بأن العراق ربما سيدخل مرحلة جديدة، عنوانها استحداث التوازن في علاقاته الداخلية والخارجية، وحفز مسيرته الانفتاحية على جواره العربي، وبدء سيرورة الإفلات من قبضة “النفوذ الإيراني المهمين” على بلاد الرافدين.
نقول ذلك، ونحن ندرك أن مسار تشكيل “الكتلة الأكبر” لم يكتمل بعد، ورسم خرائط السلطة والمعارضة في المرحلة العراقية القادمة، عملية ما زالت قائمة، ومصائر الرئاسات الثلاث، ومن مِن العراقيين سترسو عليه المنافسة لإشغال أهم ثلاثة مواقع في النظام السياسي العراقي، لم تتضح بعد… كما أن الأهم والأخطر من كل هذا وذاك وتلك، كيف ستتفاعل القوى المسلحة الخاسرة في الانتخابات مع نتائجها، وما إن كانت ستلتزم بالمسار السلمي القانوني – الدستوري، أم أنها قد تلجأ لوسائل تصعيد ميدانية، كأن تحتكم للشارع أو تلجأ إلى وسائل غير سلمية.
على أية حال، يراهن العراقيون، على قوة وزخم الحاضنة الإقليمية والدولية للعملية الانتخابية والمفوضية والحكومة والنتائج التي تكشّفت عنها صناديق الاقتراع… كما أن رهاناً آخر ينعقد على المفوضية والحكومة، إذ على الرغم من كل حملات التشكيك والاتهام، التهديد والتهويل، ما زالتا ثابتتين على مواقفهما، وتحظيان بشبكة أمان قوية، وتستندان إلى جمهور عريض تتوزعه القوى الفائزة في الانتخابات، والتي لن تقبل بحال من الأحوال، التفريط بما أنجزته من نتائج فاجأتها قبل أن تفاجئ المراقبين والمجتمع الدولي.
لسنا هنا بصدد الخوض مطولاً في تحليل أسباب نجاح البعض وفشل البعض الآخر… لكن العراقيين عموماً، ومن المكون الشيعي العربي، من أبناء المحافظات الوسطى والجنوبية وبغداد العاصمة، أظهروا على مدى العامين الفائتين، ومنذ اندلاع انتفاضة تشرين 2019، ضيقهم بالطبقة السياسية العراقية، وبالأحزاب الدينية والمليشيات التابعة لها، مثلما ضاقوا ذرعاً بحجم التورط الإيراني في إدارة وتدبير شؤون حياتهم والتدخل في يومياتها وتفاصيلها… لقد تصدوا في الشوارع والميادين، بصدورهم العارية لهذه القوى، وسقط منهم أكثر من 800 شهيد وألوف الجرحى، فيما بعض قادتهم اختار المنفى الكردستاني في شمالي العراقي، بعد أن تعرضوا لأبشع أنواع الملاحقة والتهديد والوعيد.
والحقيقة أن نتائج الانتخابات العراقية، وبصرف النظر عمّا إذا قُدّرَ للدكتور مصطفى الكاظمي أن يحظى بولاية ثانية لرئاسة الحكومة أم لا، تشير إلى أن السياسة التي اتبعها الكاظمي ستجد من يتابعها ويواصل العمل بقواعدها الرئيسة: الانفتاح على دول الجوار العربي والمضي في مبادرة “الشام الجديدة”، حتى وإن أعطيت أسماء ومسميات جديدة… فليس من مصلحة القوى والكتل الثلاث الأكبر في الأوساط السنية والكردية والشيعية، أن تعيد انتاج معادلة الهيمنة والاستتباع بين إيران والعراق.
لا يعني ذلك للحظة واحدة، أن النفوذ الإيراني المهمين في العراق، قد شارف على خط النهاية، تلكم مهمة لا يستطيع أحدٌ الزعم بأنها أنجزت أو أنه قادر على إنجازها في المدى المرئي… لكن العراق اليوم وغداً، لن يعاود استئناف علاقات الاستتباع مع إيران.. هذا فصل أغلق تماماً، والعودة إليه لا تبدو متاحة أمام الإيرانيين وحلفائهم من العراقيين.
يمكن للعراق، ويتعين على أي تشكيل ائتلافي قادم، أن يقيم علاقات متوازنة مع طهران، أساسها “الندّية” و”التعامل بالمثل وعلى قدم المساواة”، يمكن للعراق بقيادته الجديدة، أن يترجم دعوى الكاظمي وغيره، بتحييده عن الصراع الأميركي – الإيراني، وتفادي تحويله لساحة تصفية حسابات أو “صندوق بريد” لتبادل الرسائل الدامية بين واشنطن وطهران.. مثل هذا التوجه، باتت لديه قواعد ارتكاز واسعة وصلبة في البرلمان العراقي الجديد، مثلما يحظى بدعم وإسناد قواعد شعبية وازنة، والأهم أنها تتغلغل وتنتشر في أوساط المكون الشيعي بعد أن كانت محصورة أساساً في المكونين الكردي والعربي السني.
وتستطيع دول جوار العراق العربية، أن تساعد في احتضانه والسعي لاستعادته لدوره العربي، من خلال تعظيم المنافع المتبادلة لمبادرة “الشام الجديدة”، أو عبر القنوات والمسالك الثنائية كذلك.. لكن مع تفادي إحراج العراق والكف عن زجّه في مواجهة مع إيران وحلفائها، يدرك الجميع أن العراق واستقراره، وربما وحدته وسيادته، قد تكون في صدارة المتضررين من مقاربات كهذه.. ولهذا السبب كنا أشرنا في مقالات سابقة على هذا الموقع، بأن شرط نجاح مبادرة “شام جديدة” وتطوير العلاقة بين العراق وجواره العربي، هو تفادي التفكير بخلق محور جديد، يستهدف هذه الدولة أو تلك، وبالذات إيران، وأن هذا التكتل المبني على فلسفة تعظيم المشتركات، ليس موجهاً ضد محور بعينه أو عاصمة بعينها.
قبل الانتخابات، كانت المخاوف المرتبطة بمصير بمستقبل الكاظمي وحكومته، تحيط بكل ما أنجز ثنائياً بين بغداد وجوارها العربي، أو بمبادرة “شام جديدة”.. بعد الانتخابات لم تعد هذه المخاوف تتركز على شخص الرئيس ومستقبله، بعد أن بات البرلمان وغالبية الطبقة السياسية الجديدة من أنصار هذا التوجه.