بقلم: حميد الكفائي – سكاي نيوز
الشرق اليوم- لم يعد السياسيون الغربيون في مأمن في بلدانهم وبين أنصارهم بسبب التطرف والإرهاب، بينما كانوا إلى عهد قريب يفخرون بالعيش بين ناخبيهم والتنقل في وسائط النقل العامة دون الحاجة إلى الحماية الشخصية.
آخر ضحايا الإرهاب هو النائب البريطاني المخضرم، ديفيد أميس، الذي اغتاله إرهابي من أصل صومالي يدعى علي حربي علي، وقد اعتقلته الشرطة قرب موقع الجريمة وفق قانون الإرهاب، ما يعني أن الجريمة لم تكن عادية أو شخصية في نظر الشرطة وإنما جزء من مخطط إرهابي أوسع.
وعلى الرغم من أن القاتل لم يكن ضمن “قائمة المشبوهين” التي تحتفظ بها الأجهزة الاستخبارية البريطانية، فإنه كان قد أحيل قبل سنوات إلى “برنامج الوقاية من الإرهاب” الذي يهدف إلى منع الأفراد الذين يبدون آراءً أو يمارسون أفعالا متطرفة من الانزلاق كليا إلى التطرف، لكنه لم يمضِ فيه سوى فترة قصيرة، لأن برنامج إعادة التأهيل هذا ليس إجباريا وأن الإحالة إليه تحصل وفق نصائح من المدارس أو الجهات الصحية، أو حتى الأفراد الذين لديهم أدلة أو شكوك بوجود بوادر تطرف عند الأشخاص الذين ينصحون بإحالتهم إلى البرنامج.
وتشك الشرطة بأن حربي علي ربما ينتمي إلى إحدى الجماعات الإسلامية المتطرفة، وأن دوافعه لم تكن ذاتية أو شخصية أو مرضية.
والضحية هو نائب محافظ مخضرم، مثَّل مقاطعة أسيكس، شرق العاصمة لندن، في البرلمان منذ عام 1983، وكان بارعا في الاحتفاظ بمقعده طوال تلك السنين رغم المشاكل الاقتصادية التي عانتها تلك المناطق في ظل حكومات المحافظين.
وقد تميز أميس، الذي كوفئ بلقب “سير” عام 2015 لخدماته العامة الاستثنائية، بالاهتمام بقضايا اجتماعية وحقوقية مثل مناهضة الإجهاض والرفق بالحيوان وحظر التسلي بصيد الثعالب، وهي رياضة قديمة مازال يمارسها بعض الأثرياء من أبناء الطبقة الأرستقراطية، وكان يحرص على سماع آراء ناخبيه شخصيا، واعتُبِر من أكثر النواب اهتماما بالناس، لذلك لم يكن متوقعا أن يتعرض لأي مشكلة سياسية أو اجتماعية أو جنائية، باعتبار أن اهتماماته إنسانية عامة. وكان يوم تعرضه للهجوم يستقبل ناخبيه في إحدى الكنائس في دائرته الانتخابية في مدينة “ساوث أند أون سي” جنوبي شرقي بريطانيا.
الأمر الوحيد الذي يتعلق بالشرق الأوسط في نشاطات السير ديفيد أميس هو حضوره مؤتمرا في باريس عام 2018 حول انتهاكات حقوق الإنسان في إيران، ضمن وفد رسمي بريطاني، وتعاطفه مع الشعب الإيراني المطالب بحقوقه الأساسية.
وعلى الرغم من أن الجماعات الإسلامية المتطرفة تشكل الهمَّ الأكبر للأجهزة الأمنية الغربية عامة، إلا أن الإرهاب لم يقتصر عليها، إذ إن الجماعات اليمينية المتطرفة تلجأ إلى العنف أحيانا لتنفيذ أجنداتها.
ففي يونيو 2016، أقدم إنجليزي يميني متطرف، هو توماس مَير، على قتل النائب جو كوكس، لأسباب سياسية، إذ كان مَير يؤيد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو موقف مناهض لموقف كوكس التي كانت تقوم بحملة لإقناع الناس بالتصويت للبقاء في الاتحاد الأوروبي أثناء الاستعداد لإجراء الاستفتاء على (بريكسيت).
الإرهاب ليس جديدا على بريطانيا، فقد كانت تعاني منه لعقود بسبب مشكلة أيرلندا الشمالية ونشاطات الجيش الجمهوري الأيرلندي المسلحة، التي استهدفت سياسيين كثيرين بمن فيهم رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر، وعدد من الوزراء ونواب حزب المحافظين، المجتمعين في مدينة برايتِن في أكتوبر عام 4198، في المؤتمر السنوي العام للحزب، والتي راح ضحيتها خمسة أشخاص، بينهم النائب السير أنتوني بيري، وزوجة زعيم الحزب في البرلمان، جون ويكم، وثلاثة أعضاء بارزين آخرين في الحزب، بالإضافة إلى وقوع 31 جريحا من أعضاء الحزب ومساعدي رئيسة الوزراء.
وقد تواصلت الأعمال الإرهابية في عموم بريطانيا مستهدفة رموز الدولة الاقتصادية والسياسية، لكن موقف رئيسة الوزراء، مارغريت ثاتشر، بقي متشددا، إذ رفضت التفاوض مع الأيرلنديين المطالبين بالالتحاق بجمهورية أيرلندا. وفي عام 1990، استهدُف النائب البريطاني البارز والوزير السابق، إيان غاو، وكان من أبرز أنصار ثاتشر، بقنبلة ألصقت بسيارته الواقفة قرب منزله، فقتل على إثرها.
ولم تتوقف أعمال العنف التي كان يدبرها الجيش الجمهوري الأيرلندي في بريطانيا إلا بعد التوصل إلى اتفاقية الجمعة الحزينة عام 1998 بين المملكة المتحدة وجمهورية أيرلندا، التي وقَّعها رئيس الوزراء البريطاني العمالي، توني بلير، ورئيس وزراء جمهورية أيرلندا، بيرتي آهيرن، والتي تضمنت أيضا اتفاقا بين الأحزاب السياسية الثمانية في مقاطعة أيرلندا الشمالية.
وكانت الاتفاقية برعاية الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فكل هذه الأطراف لها علاقة بالقضية الأيرلندية، إذ يأتي معظم تمويل الجيش الجمهوري من أميركيين كاثوليك من أصل أيرلندي، بينما يسعى الانفصاليون الأيرلنديون إلى الالتحاق بجمهورية أيرلندا التي هي، إلى جانب بريطانيا، عضو في الاتحاد الأوروبي. وقد وضعت تلك الاتفاقية حدا لأعمال العنف في بريطانيا وأنهت حربا استمرت 30 عاما، أطلق عليها البريطانيون اسم “الاضطرابات” أو (The Troubles).
لكن استهداف جماعة إسلامية لنائب بريطاني مخضرم ومعروف بنشاطاته الخيرية والإنسانية، ويتمتع بشعبية واسعة، بل ويحظى باحترام السياسيين من اليمين واليسار، سوف يؤجج العداء ضد المسلمين في بريطانيا وعموم أوروبا وربما البلدان الغربية الأخرى، حتى وإن كان هذا الحادث قد ارتكبه وخطط له مجرم بشكل شخصي.
مشاعر العداء للمسلمين (الإسلاموفوبيا) تتأجج بسهولة في صفوف اليمين، بل وتتسع الدائرة لتشمل الكثير من أفراد الشعب إن تعلق الأمر بثقافتهم وأسلوب حياتهم، وهذا آخر ما يريده المسلمون في أوروبا والعالم، خصوصا بعد أن تحسنت صورتهم كثيرا نتيجة مساهماتهم القيمة في النشاطات الاقتصادية والسياسية والإنسانية. فقد ساهم مئات الأطباء المسلمين في مكافحة جائحة كورونا، مثلا، وفقد الكثير منهم حياته بسبب عمله الدؤوب لإنقاذ المرضى من الأديان والمشارب كافة.
وخلال السنوات الأخيرة اندمج المسلمون البريطانيون في المجتمع البريطاني أكثر من السابق، وتزايدت مساهماتهم، إلى جانب البريطانيين من ذوي الأصول غير الأوروبية، في السياسة والإدارة والتجارة والرياضة.
على سبيل المثال، يتمتع اللاعب المصري، محمد صلاح، بشعبية واسعة في الأوساط الشعبية كونه لاعبا متميزا في أهم نادٍ رياضي بريطاني، وهو ليفربول، ويعتبره كثيرون أفضل لاعب في العالم. والشعب البريطاني معروف بولعه بالرياضة وكرة القدم، لذلك فإن بروز نجوم عرب كمحمد صلاح واللاعب الجزائري الأصل زين الدين زيدان والملاكم اليمني الأصل نسيم حميد، قد حسن من صورة المسلمين في الغرب التي يسيء إليها المتطرفون المتشدقون بالدين.
وفي السياسة، برز العديد من المسلمين وذوي الأصول الآسيوية والإفريقية وتولوا مناصب سياسية وإدارية رفيعة. وزير الصحة الحالي، سجاد جاويد، الذي شغل سابقا أهم منصبين في الدولة، وهما وزير المالية ووزير الداخلية، هو مسلم باكستاني الأصل، ووزير التعليم، ناظم الزهاوي هو الآخر مسلم عراقي الأصل، وكذلك رئيس بلدية لندن، صادق خان، هو مسلم باكستاني الأصل، ويشغل منصبا مهما، كان يشغله قبله رئيس الوزراء الحالي بوريس جونسون.
أما وزيرا المالية، ريشي سوناك، والداخلية، بريتي بيتيل، فهما أيضا من أصول هندية، بل حتى رئيس الوزراء، بوريس جونسون، هو من أصول تركية إسلامية، إذ كان جده، علي كمال، شخصية تركية بارزة، إذ كان صحفيا وشاعرا ووزيرا للداخلية في الدولة العثمانية.
كما برز في حكومة توني بلير، النائب والوزير المسلم، شهيد مالك، الذي كان محاربا عنيدا من أجل حقوق الآخرين، مسلمين وغير مسلمين، ودخل في معارك قضائية كثيرة ربح معظمها. لكن تصدي مالك لقضايا كثيرة جعله عرضة لاستهداف اليمين البريطاني، وأخيرا كشفت التحقيقات أنه، مع نواب آخرين، تقاضى الحد الأقصى للمصاريف البرلمانية، ربما لكثرة نشاطاته والاستهدافات التي تعرض لها، ومن المؤاخذات المسجلة عليه أنه الوحيد الذي وظّف أباه في مكتبه!
الأعمال الإرهابية البشعة التي يرتكبها متطرفون باسم الإسلام، تسيء إلى سمعة المسلمين وتزعزع مواقفهم ومواقعهم في المجتمعات الغربية، خصوصا وأنها تلقي بظلالها على الحياة الغربية بشكل عام. لقد اعتاد المسؤولون الغربيون، من نواب ووزراء وملوك وأمراء ورؤساء، الاختلاط بالناس دون حرج، والعيش في أوساطهم دون أن تكون لهم حماية مسلحة.
ولكن مثل هذه الجرائم التي تهدد حياتهم سوف تغير من هذا السلوك، بل ستغير النمط المعتاد للثقافة والحياة عند كثيرين. وقد أعلن رئيس البرلمان إنه لابد من مراجعة إجراءات حماية النواب في المستقبل، بينما قالت وزيرة الداخلية، بريتي بيتيل، إن وزاراتها اتخذت إجراءات بخصوص حماية النواب بعد مقتل جو كوكس، لكن عمل النواب يتطلب الاختلاط بالناس وهذا لا يمكن تغييره.
ولكن، إن كانت النائب جو كوكس قد قتلها يميني إنجليزي متطرف، في حادثة اعتُبِرت نادرة الحدوث، وهي كذلك، فإن مقتل النائب الوديع الجريء المتدين، السير ديفيد أميس، على أيدي جماعة إسلامية متطرفة، قد يتكرر مستقبلا، ما يستدعي اتخاذ إجراءات فعلية لحماية المسؤولين والشخصيات العامة.
مع ذلك فقد أصبح المسلمون في بريطانيا أقوى من أي وقت مضى، وهناك متنفذون كثيرون بينهم يمكنهم أن يتصدوا للإرهاب والتطرف، وهذا ما فعلوه في هذه الحادثة التي كان وزير التعليم ناظم الزهاوي أول من أدانها وقدم التعازي لعائلة الفقيد وللشعب البريطاني عموما، وكذلك فعل صادق خان وسجاد جاويد وآخرون.
لن يعود الزمن إلى الوراء، والمطلوب من حكومات الدول المعنية تضييق الخناق على الجماعات الإرهابية ومموليها ومساعديها والمتعاطفين معها كي يتجاوز العالم هذه الكارثة ويتفرغ للأخطار البيئية والصحية المحدقة به.