بقلم: مؤيد يوسف – اندبندنت العربية
الشرق اليوم- كان الرئيس جو بايدن محقاً في إنهاء المهمة العسكرية الأمريكية في أفغانستان، إذ من الواضح أن النظام في كابول كان غير قادر على البقاء وحماية نفسه، ودعمه بمليارات الدولارات الإضافية ما كان ليؤدي سوى إلى تأخير انهياره المحتوم. في الواقع، بالنظر إلى نفور المجتمع الأفغاني تاريخياً من الاحتلال الأجنبي، ما كانوا سيتوصلون إلى حل عسكري للصراع الذي كان ليصب في مصلحة الولايات المتحدة. لهذا السبب كانت باكستان تدعو إلى تسوية دبلوماسية شاملة منذ أن بدأت المفاوضات المعروفة باسم “مؤتمر بون” في أعقاب الغزو الأميركي في عام 2001.
واليوم، تقف أفغانستان أمام مفترق طرق: إما أن تسير في طريق السلام الشاق، أو أن تعود إلى الاضطرابات المدنية. وسيكون لهذا الأخير تداعيات كارثية على الشعب الأفغاني وآثار غير مباشرة على الجوار وأبعد منه، إذ إن انتشار اللاجئين والمخدرات والأسلحة والإرهاب العابر للحدود من أفغانستان المضطربة لا يخدم مصالح الشعب الأفغاني أو بقية العالم، وبخاصة باكستان. والجدير بالذكر أن تحقيق أي من النتيجتين مرتبط من جهة بكيفية تعامل المجتمع الدولي مع الواقع السياسي الجديد في أفغانستان، ومن جهة أخرى بالطريقة التي تختارها حركة “طالبان” لحكم بلادها.
ما مرت به باكستان
إلى جانب الشعب الأفغاني، كانت باكستان أكبر ضحية للحروب في أفغانستان. لم يكن الغزو السوفياتي عام 1979 والحملة العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر (أيلول) من صنع باكستان. وعلى الرغم من ذلك، فقد تحمل مجتمعنا ونظامنا السياسي واقتصادنا العبء الأكبر للصراع على مدى العقود الأربعة الماضية.
في عام 2001، انضمت باكستان إلى الحرب الأمريكية على الإرهاب ضد نفس الجهات الفاعلة التي تم الترحيب بها كجهات مقاتلة من أجل الحرية عندما قامت واشنطن وإسلام آباد معاً بتدريبها ودعمها بهدف هزيمة السوفيات في الثمانينيات. بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أصدر القادة الأمريكيون إنذاراً نهائياً للديكتاتور العسكري الباكستاني الجنرال برويز مشرف، فارضين عليه اختيار ما إذا كان “معنا أو ضدنا”. تحت الضغط، قدم “مشرف” للولايات المتحدة وشركائها دعماً غير مشروط تقريباً بما في ذلك الوصول إلى القواعد الجوية الباكستانية وطرق الإمداد البرية والجوية، وساعد في اعتقال المئات من أعضاء “القاعدة”.
واستطراداً، أدى قرار مشرف بعد 11 سبتمبر شن حملة عسكرية داخلية ضد مقاتلي الحرية [المقاتلين في سبيل رحيل السوفيات] السابقين في أفغانستان، الذين أظهر عدد كبير منهم انتماء ثقافياً وعرقياً عميقاً إلى رجال القبائل في المناطق الحدودية الباكستانية – الأفغانية، إلى تمرد هائل ضد الدولة الباكستانية. فأبصر النور أكثر من 50 فصيلاً مسلحاً، في محاولة لمعاقبة باكستان على تعاونها مع الولايات المتحدة. واستهدفت هذه المجموعات مدننا وذبحوا أطفالنا. ونزح 3.5 مليون مدني من منازلهم في ذروة هذا الهجوم. في السنوات العشرين الماضية، تكبدت باكستان أكثر من 80 ألف ضحية نتيجة للهجمات الإرهابية، وخسائر اقتصادية تزيد على 150 مليار دولار.
كما أن تكلفة إعالة المدنيين الأفغان الفارين من الحرب في وطنهم قد وقعت إلى حد كبير على عاتق باكستان. في الواقع، ونستضيف حتى اليوم ما يقرب من أربعة ملايين لاجئ أفغاني. وهذا أقل من الذروة التي تجاوزت خمسة ملايين في الثمانينيات. علاوة على ذلك، جلبت الفوضى في أفغانستان “ثقافة الكلاشينكوف” [حل النزاعات السياسية بقوة السلاح] وتهريب المخدرات إلى باكستان، بالتالي، ارتفعت معدلات الإدمان في بلدنا خلال الثمانينيات أكثر بخمسين مرة تقريباً.
وعلى الرغم من ذلك، استمرت الحكومات الغربية في اتهام الدولة الباكستانية بالازدواجية، وطلبت منا “بذل المزيد” من أجل تغيير مجرى الحرب في أفغانستان. بالنظر إلى التضحيات التي كانت باكستان تقدمها على أساس يومي، وجد الباكستانيون أن الموقف الغربي مناف للمنطق، فقد اعتقدوا أنه لا يمكننا فعل المزيد من دون المخاطرة بنجاتنا وبقائنا كدولة قومية حديثة.
وهذا الانفصال وسم وخلف أثره في الشراكة الباكستانية – الأمريكية خلال معظم العقدين الماضيين. فقد نشأ الانقسام في جوهره من اختلاف وجهات النظر حول كيفية إنهاء الحرب وإحلال السلام في أفغانستان. وكان الحل الذي اقترحته الولايات المتحدة هو تحقيق نصر كامل على حركة “طالبان”، ولكن حتى عندما بدأت واشنطن في التفكير في إجراء مفاوضات مع الحركة، رأى العديد من المسؤولين الأمريكيين أنها وسيلة لخلق انقسامات داخلية داخل “طالبان” بدلاً من التفاوض على صفقة منصفة.
واستكمالاً، تكلمت الحكومة الباكستانية مع الولايات المتحدة بوضوح وقسوة حول حماقة خطط هذه الأخيرة. في الحقيقة، كان السبب الذي دفعنا إلى اتخاذ هذا الموقف هو فهمنا العميق للسياق المحلي وكراهية الأفغان لكل ما يتعلق بالاحتلال الأجنبي لبلدهم، ما جعل من المستحيل عليهم اعتبار مشروع بناء الدولة بعد 11 سبتمبر مشروعاً وطنياً. في وقت مبكر من عام 2002، حثت باكستان الولايات المتحدة وحلفاءها في “الناتو” على الاعتراف بأن “القاعدة” قد تلقت ضربة قاسية، وأنه حتى مع استمرار القوى الغربية في مهمتها ضد الجماعات الإرهابية الدولية، فإنها بحاجة إلى الاعتراف بأن حركة “طالبان” شكلت واقعاً سياسياً في أفغانستان. قبل عقد من الزمن، عندما كانت أعداد القوات الأمريكية في ذروتها، قدمت باكستان نصيحة باستخدام هذا النفوذ للتفاوض على تسوية سياسية مقبولة للحرب، لكن واشنطن تجاهلت هذه النصيحة، ولم تتحول المحادثات قط إلى الركيزة الأساسية في استراتيجية الولايات المتحدة.
وفي هذا الإطار، غضت أكثر من حكومة غربية الطرف عن إخفاقاتها وإخفاقات الحكومة الأفغانية، التي كانت تساهم في إنعاش “طالبان” واشتداد عودها. وعلى الرغم من ذلك، تعاملت باكستان مع الحكومة في كابول بنوايا صادقة. على سبيل المثال، رداً على شكاوى من الحكومتين الأمريكية والأفغانية بأن مقاتلي “طالبان” تمكنوا من عبور الحدود الأفغانية – الباكستانية بحرية والعثور على ملاذ في بلدنا، قدمت باكستان مراراً وتكراراً الحل الأكثر منطقية، المتمثل بإدارة الحدود بطريقة منسقة وعلى نحو واضح الرؤية. في الواقع، تراوحت مقترحاتنا بين إجراءات التشغيل الموحدة الرسمية والعلاقات العسكرية لإدارة الحدود، وتسييج الحدود بأكملها، والعمل معاً لسد وإقفال أكثر من 60 معبراً حدودياً غير رسمي، وصولاً إلى وضع ضوابط بيومترية لتتبع جميع التحركات عبر الحدود. ثم دعت باكستان لاحقاً إلى نظام تأشيرات رسمي، مبتعدةً عن آلاف المعابر اليومية غير الرسمية المعتمدة بشكل اعتيادي بالنسبة إلى القبائل والعائلات الممتدة على جانبي الحدود، أو التي تتجاوز سبل عيشها الحدود.
ولكن، تم رفض جميع طلبات باكستان أو تجاهلها أو مقاومتها على نحو حثيث. في وقت مبكر من عام 2007 مثلاً، قامت السلطات الأفغانية بهدم الأنظمة البيومترية الحدودية التي كانت باكستان تقوم بتركيبها، والذريعة الواهية التي قدمت هي أن أفغانستان لم تعترف بالحدود الدولية، بالتالي فهي تخالف الضوابط الفعلية.
من المنطقي أنه لو كانت سهولة التسلل عبر الحدود هي الشغل الشاغل للحكومة الأفغانية، لكانت تحركت بسرعة لمساعدة باكستان على مراقبتها بفعالية. وكما أثبت انهيار حكومة الرئيس السابق أشرف غني، فالسبب في عدم حدوث ذلك هو أن كابول علمت أن الأسباب الحقيقية وراء خسارتها وفقدانها الأرض لصالح “طالبان” هي إخفاقاتها في الحكم وفسادها الهائل، وما يترتب على ذلك من افتقار الدولة الأفغانية بعد 11 سبتمبر المصداقية في عيون المواطن الأفغاني العادي. كانت الحكومة في كابول غير راغبة أو غير قادرة على إصلاح هذه الإخفاقات الداخلية، لذلك حولت الانتباه واللوم نحو باكستان. وكان هذا مناسباً أيضاً للدول التي كانت تضخ مليارات الدولارات في أفغانستان من دون ون نتيجة واعدة يعتد بها على مستوى إلحاق الهزيمة بـ”طالبان”.
وكذلك، أخفى التركيز على الحدود حقيقة أن الإرهابيين المتمركزين في أفغانستان كانوا يتعاونون مع خصمنا اللدود، الهند، ومع عناصر في أجهزة الاستخبارات الأفغانية لتنفيذ هجمات بانتظام داخل باكستان. وكما ذكرت باكستان علناً في تقرير صدر العام الماضي، أدارت الهند ما يصل إلى 66 معسكراً تدريبياً في أفغانستان لمجموعات مثل “طالبان” الباكستانية وغيرها من المنظمات المسلحة النشطة في إقليم بلوشستان الغربي. وبدعم من الهند، نفذت هذه الجماعات عمليات قتل محددة الهدف في أنحاء باكستان وهجمات بارزة على أكبر بورصة باكستانية، وجامعة كبرى، وفندق فاخر في مدينة جوادر الساحلية، من بين أشياء أخرى كثيرة. في الوقت نفسه، عملت الهند على تشويه سمعة باكستان من خلال حملة دعائية منظمة، باستخدام شبكات الأخبار المزيفة لإدامة رواية تحريفية سعت إلى إلقاء اللوم على باكستان في إخفاقات أفغانستان.
في غضون ذلك، واصلت الولايات المتحدة الضغط على باكستان لتصعيد حملتها العسكرية ضد حركة “طالبان” الأفغانية. وعلى الرغم من ذلك، فالحقيقة هي أن الجماعة لم يكن لها وجود منظم في باكستان، وأن العمل العسكري ضد عدد قليل من الأفراد المشتتين، الذين ربما تمكنوا من حين لآخر من الاختفاء بين آلاف اللاجئين الأفغان، لم يكن ليغير النتيجة في أفغانستان، لكنه كان سيترك آلاف الباكستانيين يلقون حتفهم. لذلك كان التصعيد غير مقبول بالنسبة إلينا، بحسب ما نقلناه مراراً وتكراراً إلى الولايات المتحدة لأكثر من عقد من الزمان. أما بديلنا المتمثل في القيادة من طريق حوار سياسي يجبر جميع الأطراف على التسوية، ويعتمد على الأدوات العسكرية وغيرها بحسب الحاجة، فكان من شأنه أن ينتج حكومة شاملة بشكل طبيعي [غير مفتعلة] مع إنهاء الصراع قبل سنوات، ولكن في كل مرة أثرنا فيها تلك المسألة، كان ينظر إلينا على أننا غير مخلصين.
كما أن الانهيار السريع لإدارة “غني” لم يترك أي شك في أن إخفاقات الحكومة لم تكن من صنع باكستان. وفي صميم عودة “طالبان” يكمن الفساد وسوء الإدارة ورفض الأفغان الوقوف وراء حكومتهم ودولتهم، واختيار 300 ألف فرد من قوات الأمن الوطني الأفغانية عدم القتال ضد متمردين مسلحين تسليحاً خفيفاً. والمثير للصدمة أن بعض الأصوات في واشنطن وعواصم غربية أخرى ما زالت تلقي باللوم على باكستان بسبب هذا الفشل وتجعلها كبش فداء، لكن إلقاء اللوم على باكستان ليس خطأً من الناحية الواقعية فحسب، بل يقوض أيضاً روح التعاون الدولي الضروري لإنهاء دائرة العنف التي دمرت أفغانستان.
نحو المستقبل والقادم
أفغانستان تستحق السلام والازدهار، ولن توصلنا لعبة اللوم بين الجهات الفاعلة الدولية إلى هناك، ولا تكرار أخطاء التسعينيات، عندما تخلت الولايات المتحدة عن أفغانستان وفرضت عقوبات على باكستان، حليفتها الوثيقة طوال الثمانينيات، بمجرد طرد السوفيات من كابول. في الواقع، أدى هذا إلى عزل المنطقة وتهميشها مع اختفاء المساعدة والاهتمام الدوليين، ووضع أفغانستان على طريق الحرب الأهلية والانهيار الاقتصادي، وعزز الجماعات الإرهابية الدولية، التي بلغت ذروتها في نهاية المطاف في هجمات 11 سبتمبر. وعلى الرغم من أن عامة الأفغان والباكستانيين سيواجهون دائماً المخاطر الأكبر الناجمة عن عدم الاستقرار داخل أفغانستان، فإن تدفقات الهجرة الجماعية والإرهاب يهددان العالم بأسره. لذلك من مصلحة كل بلد الحيلولة دون تكرار التاريخ نفسه.
والطريقة الحصيفة للمضي قدماً هي أن يشارك المجتمع الدولي بشكل بناء مع الحكومة الجديدة في كابول. في هذا الإطار، يجب أن يكون الهدف هو تهيئة الظروف للمدنيين الأفغان لكسب الرزق الكريم والعيش في سلام. وسيتطلب ذلك من المجتمع الدولي، وبخاصة الدول التي كانت موجودة في أفغانستان منذ عقدين، أن تلعب دوراً إيجابياً في الاستفادة من نفوذها لتعزيز قضية السلام والاستقرار.
واستطراداً، كانت باكستان تتصدر الجهود الإنسانية الدولية منذ سقوط كابول. وساعدت في إجلاء نحو 20 ألف مواطن أجنبي وأفغاني وأنشأت جسراً جوياً وبرياً لتوصيل إمدادات الطوارئ إلى البلاد. وتلك الجهود مهمة، لكن المشاركة الدبلوماسية مع أفغانستان يجب أن تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، إذ إن أفغانستان لا تملك الموارد أو القدرة المؤسسية لتفادي كارثة اقتصادية بمفردها. ومن أجل ضمان سلام دائم، ينبغي على المجتمع الدولي تحديد الوسائل التي يمكن من خلالها تقديم المساعدة الإنمائية مع ضمان معالجة مخاوفه بشأن مآل الأمور في البلد، ولكن بالنظر إلى الوضع الإنساني والاقتصادي غير المستقر في أفغانستان، فالوقت عامل جوهري. وفي المقابل، وعلى الرغم من أن نهج الانتظار والترقب، يلاقي قبولاً سياسياً أكبر في العديد من البلدان، فهو سيكون بمثابة تخلٍ.
لا تختلف توقعات باكستان المنتظرة من الحكومة الجديدة عن توقعات الحكومات الغربية. في الواقع، تريد باكستان دولة شاملة [جامعة من دون إقصاء]، تحترم حقوق جميع الأفغان، وتضمن عدم استخدام الأراضي الأفغانية للإرهاب ضد أي دولة. وخلافاً لفترة التسعينيات، أعلنت حركة “طالبان” مراراً وتكراراً اهتمامها بمتابعة التواصل مع العالم. وهذه فرصة سانحة أمام المجتمع الدولي، إذ يمكن استخدام النفوذ الناتج عن المساعدة، والشرعية التي ستستمدها “طالبان” من ذلك، لتأمين حكم شامل من الإدارة الجديدة.
خلال الشهر الماضي، قادت باكستان مبادرات دبلوماسية مع جيران أفغانستان المباشرين ودول أخرى في المنطقة لمناقشة سبل المضي قدماً. ونحن سنواصل هذه الجهود. ومع ذلك، يجب أن تكون الدبلوماسية الغربية مرتبطة على نحو أفضل بالمبادرات الإقليمية من أجل صياغة أجندة مشتركة للانخراط واتخاذ قرار بشأن السبل المتعددة الأطراف والثنائية المتاحة لتوجيه المساعدة. يمكن أن تكون نقطة الانطلاق مؤتمراً رئيساً للمانحين تجتمع فيه الجهات الفاعلة الإقليمية والدول الغربية معاً ويضعون خططاً محددة للإغاثة الإنسانية والاقتصادية. كما أن هناك حاجة إلى تفاهم بشأن شروط الإفراج عن احتياطات البنك المركزي الأفغاني، التي تحتفظ الولايات المتحدة بمعظمها. وكذلك، يمكن استخدام هذا المنتدى لتشجيع البلدان التي لديها مشاريع إنمائية غير مكتملة في أفغانستان على التفكير في إكمالها لمصلحة الشعب الأفغاني.
والجدير بالذكر أن اتباع نهج عالمي دولي منسق سيقلل من مخاطر الانقسامات الدولية حول أفضل السبل للتعامل مع “طالبان”. وعلى الرغم من أهمية بقائنا واقعيين بشأن ما يمكن تحقيقه في السياق الحالي، فإن هذا النهج سيزيد احتمالات التوصل إلى نتيجة تعود بالفائدة على المواطن الأفغاني العادي وتكون مقبولة من المجتمع الدولي.
بصفتي مستشار الأمن القومي الباكستاني، وظيفتي هي الدفاع عن الخيارات السياسية التي ستحمي بلدي. والموقف الذي أشرت إليه هنا يستند إلى الحقيقة الأساسية التي مفادها أن فك الارتباط بأفغانستان ليس خياراً مطروحاً بالنسبة إلى باكستان. في الواقع، يتشارك البلدان حدوداً تمتد على أكثر من 1600 ميل وروابط ثقافية تعود لقرون. إذاً، تجبر هذه العلاقات الجغرافية والمجتمعية باكستان على الدفاع عن السلام في أفغانستان، إذ إن عدم الاستقرار قد ينتقل إلى بلدنا. ولا يمكن السماح لـ”طالبان” الباكستانية والدولة الإسلامية والجماعات الأخرى المناهضة لباكستان في أفغانستان بإلحاق الأذى بباكستان. كما أننا لسنا في وضع يسمح لنا بقبول المزيد من اللاجئين الأفغان، الذين سيتم دفعهم حتماً إلى أرضنا بسبب موجة أخرى من العنف في وطنهم.
وعلى مستوى مُوازٍ، نحن نشعر بحساسية شديدة تجاه حقيقة أن سبل عيش ملايين الأفغان مرتبطة بباكستان. كون أفعانستان دولة غير ساحلية، فهي تعتمد على باكستان في التجارة والعبور. وقد يصبح موقع البلاد الجغرافي ميزةً إذا حولت نفسها إلى مركز عبور يربط آسيا الوسطى بالمياه الدافئة في باكستان. غير أن حكومة غني حالت دون هذه الاحتمالات، متجاهلة العروض الباكستانية لمزيد من التعاون التجاري والاقتصادي المبسط والتتبع السريع لمشاريع الاتصال مع آسيا الوسطى.
تجدر الإشارة إلى أن مثل هذا الترابط لا يشكل مفتاحاً لرؤية باكستان الجيو-اقتصادية فحسب، بل يتوافق أيضاً مع الرؤية الإقليمية التي تقودها الولايات المتحدة لإقامة روابط اقتصادية بين أفغانستان وباكستان وأوزبكستان. يجري تنفيذ مشاريع ربط متعددة، بما في ذلك خطط لإنشاء تدفقات الطاقة والكهرباء من آسيا الوسطى، ومشروع سكة حديد عبر أفغانستان من أوزبكستان، ومشاريع لتحديث البنية التحتية للطرق ترمي إلى إنشاء ممر اتصال تدور عجلة العمل فيه. من المحتمل أن تقوم الولايات المتحدة وغيرها من أصحاب الاستثمارات الدولية والإقليمية في الطاقة والمعادن والبنية التحتية، بالتبشير بحقبة جديدة من التعاون في المنطقة وتدعم جهود السلام.
في المقابل، يمكن لباكستان أن تساعد في دفع أفغانستان في اتجاه إيجابي وستقوم بذلك، فهي وحدها لا تستطيع ضمان النتائج التي نرغب فيها جميعاً. كما أن باكستان لا تمارس أي تأثير غير عادي على الحكام الجدد في كابول، إذ يمكن أن تأتي المساعدة المالية والشرعية لـ”طالبان” (أو لا تأتي) من القوى العالمية الكبرى فحسب. وعلى الرغم من ذلك، فالمشاركة المنسقة التي تضم القوى الغربية، والصين، وروسيا، ودول الشرق الأوسط، وجيران أفغانستان المباشرين، من شأنها أن تزيد فرص تحقيق أهدافنا المشتركة في أفغانستان.
سلام دائم
باكستان ملتزمة بالسلام في أفغانستان وفي المنطقة. في الحقيقة، فقدنا الكثير من الدماء والأموال لدعم الحرب في الجوار وأظهرنا مراراً التزامنا بضمان استقرار جيراننا وازدهارهم الاقتصادي. لقد عملنا مع الولايات المتحدة لتسهيل عملية السلام في أفغانستان، وواجهنا خطر الإرهاب في الداخل، واستضفنا ملايين الأفغان لأكثر من أربعة عقود، واتبعنا سياسة ضبط النفس الاستراتيجي على الرغم من الاستفزازات العدوانية من المخربين مثل الهند. لذا، تسعى باكستان حاضراً إلى تعزيز الترابط الاقتصادي من خلال العلاقات الإقليمية والشراكات الإنمائية، وفي الوقت نفسه، تسوية النزاعات السياسية بشكل ودي.
ويمكن لأفغانستان أن تشكل نموذجاً لهذه الرؤية الإقليمية، لكن يجب على المجتمع الدولي أيضاً أن يلعب دوره. من طريق التفاهم مع السلطات الأفغانية الجديدة الآن، في وسع ولايات المتحدة والقوى العالمية الأخرى تجنب وقوع أزمة إنسانية، ومساعدة الأفغان على العيش في سلام، والتأكد من إنهاء تهديد الإرهاب المنبثق من الأراضي الأفغانية بشكل نهائي. هذه ليست مسؤوليتها الجماعية فحسب، بل أيضاً تصب في مصلحتها الشخصية.
بطبيعة الحال، سيتعين على سلطات “طالبان” الجديدة أن تثبت في النهاية أنها تنوي حكم أفغانستان بطريقة جامعة أكثر. وعلى الرغم من ذلك، سيحكم علينا التاريخ بشكل سيئ للغاية إذا إننا لم نسهم في توفير البيئة الأكثر ملاءمة لدفع الحركة إلى منحى سليم يعود بالمنفعة والفوائد الجماعية على الأفغان والعالم. والفشل في القيام بذلك سيترك باكستان تتحمل وطأة أي تداعيات سلبية من أفغانستان. لقد تحملنا بالفعل عبئاً يفوق طاقتنا.