بقلم: بيشوي رمزي – اليوم السابع
الشرق اليوم- خلال ثلاثة عقود، كانت الولايات المتحدة تهيمن منفردة على النظام العالمي، منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، لتصبح السلطة العالمية حكرا عليها، عبر السيطرة على كافة المؤسسات الدولية، لتتحول واشنطن المصدر الرئيسى للشرعية الدولية، في نظام عالمي “فيدرالي”، تتمركز فيه السلطات في يد قوى واحدة، بينما يصبح باقي أفراد المجتمع الدولي بمثابة مؤسسات خاضعة للسلطة المركزية، وذلك في ضوء معطيات أهمها القوة الاقتصادية، والتفوق العسكري، ناهيك عن الاستقرار السياسي، والمجتمعي، مما سمح لها القيام بهذا الدور، عبر التدخل في الصراعات الدولية تارة، أو الإطاحة بالخصوم، تارة أخرى، وتغيير الخارطة الإقليمية هنا أو هناك تارة ثالثة بحسب المصالح الأمريكية، في المقام الأول.
إرهاصات النظام المنتهية ولايته، لم تبدأ مع نهاية الحرب الباردة، وإنما مع بدايتها، وتحديدا مع انتصار “الحلفاء” في الحرب العالمية الثانية، حيث قامت بفرض دستورها السياسي على معسكرها الغربي، والقائم على الديمقراطية، ثم رؤيتها الاقتصادية، القائمة على الرأسمالية وحرية التجارة، وغيرها، لتكون بمثابة القانون الذي ينبغي اتباعه من قبل حلفائها، لتقوم بتعميم أفكارها بعد ذلك، في أعقاب هيمنتها المطلقة على العالم في التسعينات من القرن الماضي، لتصبح تلك المبادئ، ليست مجرد “ورقة” انضمام الدولة إلى حلفائها، وإنما أصبحت مصدرا للشرعية، في الأنظمة الحاكمة لكافة السلطات، في الدول في كافة مناطق العالم، بينما يصبح الخارجين عليها، في بمثابة قوى “مارقة” تحاصرها واشنطن وحلفائها بالعقوبات الدولية، عبر المؤسسات التي تسيطر عليها، وعلى رأسها الأمم المتحدة، والتي تعد بمثابة “برلمان” العالم، الذي يضفي الشرعية على قرارات القيادة الحاكمة في العالم، بينما تصبح “الورقة العسكرية” جاهزة في كثير من الأحيان لإسقاط أنظمتهم، عبر ذرائع متنوعة، على غرار ما شهدته العراق قبل ما يقرب من عامين، والتي اتهمتها أمريكا بحيازة أسلحة دمار شمال، وهو الادعاء الذى ثبت عدم صحته بعد ذلك.
ولكن مع التغيير الكبير، في المشهد الدولي، عبر التراجع الأمريكي، وصعود قوى أخرى، على غرار الصين وروسيا، تزامنا مع محاولات أوروبية للمنافسة على دور قيادي عالمي، سواء في الصورة الكلية، من خلال الاتحاد الأوروبي، أو فرديا، على غرار الدول الطامحة لاستعادة أمجادها، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا، ناهيك عن ألمانيا التي اعتلت عرش القارة العجوز لسنوات، عبر قيادة التكتل القاري، يبدو أن العالم يتجه بقوة نحو ما يمكننا تسميته بـ”الكونفدرالية” العالمية، والذي يقوم على خلق قيادات إقليمية في مختلف مناطق العالم، يمكنها أن تقوم بدور بارز في حل أزمات أقاليمها، بينما تتمتع بمؤسساتها، المتمثلة في منظماتها الإقليمية، والتي تعد بمثابة برلمانات خاصة بكل منطقة، يمكنها تقديم الغطاء الشرعي للقيادات الجديدة.
فلو نظرنا إلى كافة مناطق العالم، نجد أن ثمة تنافسات إقليمية، ولدت من رحم الصراع الدولى الكبير، بين واشنطن وبكين، ومعهما موسكو، وهو ما يتجلى على سبيل المثال في آسيا، والتي تشهد صراعا بين اليابان وكوريا الجنوبية، عبر إحياء خلافات تاريخية، بحثا عن دور أكبر في منطقتهما، في حين نجد محاولات كبيرة من الهند، لمزاحمة “التنين” الصينى، بمباركة أمريكية، للقيام بدور أكبر، وتهميش أبرز خصوم واشنطن في المرحلة الراهنة.
الأمر لا يقتصر على آسيا، وإنما يمتد إلى أوروبا، فهناك محاولات فرنسية جادة لقيادة منطقتها من بوابة الاتحاد الأوروبى، بينما نجد على الجانب الأخر، مساع بريطانية، تهدف في الأساس إلى القيادة من خارج التكتل القارى، لاستعادة التاريخ الامبراطورى، وهو ما يمثل انعكاسا مهما لحقبة، ربما تكون انتقالية، بين حقبتى “الهمينة” الأمريكية من جانب، و”التعددية القطبية” من جانب أخر.