بقلم: يوسف بدر – النهار العربي
الشرق اليوم- لسنوات طوال، سعت تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لكنها عجزت عن ذلك، لأسباب تتعلق بالتعنت الغربي والخشية من نفوذها ومشاكلها، ولأسباب أخرى تتعلق بالانقسام داخل تركيا بين دعاة “الأطلسية” والانضمام إلى أوروبا، وبين دعاة “الأوراسية” والتوجه نحو أسيا.
القوميون الجدد
شهد حزب “العدالة والتنمية” بقيادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال السنوات الأخيرة، مزيجاً من التحولات الفكرية ما بين الليبرالية والقومية واليسارية. وتُرجم ذلك عملياً، بالتحالف مع حزب “الحركة القومية”، وما تبعه من تأثير في السياسة الخارجية بالتوجه نحو “أوراسيا”، حيث بدا أن تركيا التي يحكمها “العدالة والتنمية” باتت تخضع لـ”القوميين الجدد” الذين يدعمون الشراكة مع أوراسيا، ويرون أن المستقبل هو لها في مواجهة الاتحاد الأوروبي.
التحولات في منطقة أوراسيا ساعدتهم في فرض رؤيتهم، فهناك صعود لقوى اقتصادية مثل روسيا والصين والهند، فيما تشكلت منظمات سياسية واقتصادية للاتحاد بين دول هذه المنطقة، مثل “منظمة شنغهاي” و”الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي”، فضلاً عن تمتع هذه المنطقة بثروات طبيعية ضخمة.
كما أن هذه المنطقة تمثل امتداداً عرقياً ولغوياً وثقافياً ودينياً للأمة التركية، تستطيع أنقرة من خلاله أن تحقق نفوذاً يعزز من مكانتها.
كذلك، شجعت التحولات لدى الغرب، تركيا للاستفادة من عمقها في أوراسيا؛ فالولايات المتحدة الأميركية تفك ارتباطها بمناطق في الشرق الأوسط، وتنقل وجهتها نحو آسيا، وذلك لدعم مشروع “القرن الأميركي الجديد”. وهذا الأمر أدركته تركيا مبكراً، وحاولت الاستفادة من موقعها كبوابة لهذه المنطقة للحفاظ على مكانتها لدى الولايات المتحدة. ورغم الخلافات بين البلدين، إلا أن العلاقة بينهما ما زالت استراتيجية.
والأمر كذلك، بالنسبة إلى أوروبا، التي تبحث عن الطاقة، والتي بات اقتصادها مهدداً، وفي حاجة إلى الشراكة مع القوى الأوراسية، خصوصاً أن الطاقة البديلة لم تصبح جاهزة بعد لدعم الاقتصاد الأوروبي. وهنا يظهر دور تركيا كحارس وناقل لممرات الطاقة.
الجسر والقفل
استفادت تركيا من موقعها الجغرافي المحوري الواقع بين آسيا وأوروبا وأفريقيا في التحول إلى الدولة “الجسر” و”القفل” لهذا المحور، وهو ما يعزز من مكانتها، إذا أرادت قوة العبور بين هذا المحور. وهنا لم تكن تركيا تسعى إلى استبدال أوروبا بأوروآسيا، بل تريد أن تصبح الرابط الاستراتيجي بين الشرق والغرب، وأن تثبت للأوروبيين أهميتها، وأنها تمثل منطقة تماس بين القوى المتنافسة، خصوصاً أن تركيا تريد الاستفادة من مكاسب الارتباط سواء بأوروآسيا أو بأوروبا؛ فالأولى حيث الموارد والأسواق الصاعدة، والثانية حيث التقدم والتكنولوجيا.
وفهم استفادة تركيا من موقعها “الجيوسياسي”، يفسر لنا صعود دورها العسكري في مناطق مثل سوريا والعراق وليبيا وجزيرة قبرص وجزيرة القرم وآذربيجان وأفغانستان، إذ تريد الحفاظ على مكانة موقعها في خريطة الجغرافيا – الاقتصادية، كبوابة ومفتاح مهم لحركة النقل والتجارة بين أوراسيا وأوروبا.
وقد تورطت تركيا في تأدية أدوار عسكرية في دول مثل سوريا وأذربيجان من أجل أن تتحول إلى الشريان الأهم لنقل الطاقة إلى أوروبا. كما عززت من نفوذها داخل منطقة أسيا الوسطى، لتصبح البوابة الآمنة لنقل التجارة بين أسيا وأوروبا.
الأمة الطورانية
إن الخطاب القومي – الطوراني الذي تقدمه تركيا تجاه الجمهوريات والعرقيات التركية في آسيا الوسطى ومنطقة القوقاز مغاير لخطابها الديني – الإسلامي تجاه منطقة العالم العربي وأفريقيا كما شهدنا في أحداث ثورات الربيع، لأن هدفها كان إسقاط الحكومات هناك تحت ذرائع تاريخ المجد والإرث العثماني والخلافة المنشودة والتخلص من الهيمنة الغربية.
أما بالنسبة إلى منطقة الأمة الطورانية، فتركيا لا تريد تثوير هذه المنطقة، بل تريد الوصول إلى مشروع قومي موحد يخدم مصالحها في هذه المنطقة.
تدرك تركيا أهمية منطقة آسيا الوسطى كقلب بالنسبة إلى المحور الأوراسي، وما تتمتع به هذه المنطقة من ثروات طبيعية وأهمية تجارية، ولذلك يكون الخطاب القومي قادراً هناك على جذب العرقيات التركية التي تعيش على تخوم الصين وروسيا، فضلاً عن أن الجمهوريات التركية المستقلة مثل أوزبكستان وتركمانستان وكازاخستان وقيرغيزستان، في حاجة إلى نموذج قومي وسياسي يساعدها في الانفتاح على العالم الخارجي والموازنة أمام النفوذ الروسي … وليس هناك أفضل من تركيا التي تشاركهم في اللغة والعرق والدين وتمثل بوابة لهم نحو أوروبا.
ولا يبدو مفهوم الأمة الطورانية خيالياً، فقد استطاعت تركيا من خلاله، منافسة روسيا وإيران في أذربيجان التي تستخدمها كممر نحو أوراسيا، وأيضاً قامت بتقزيم جارتها أرمينيا أمام الصعود الطوراني في منطقة القوقاز. وظهرت نزعات انفصالية لتشكيل كيانات طورانية مستقلة مثلما حدث في أذربيجان الإيرانية وفي سنجان الصينية وجزيرة القرم الأوكرانية.
العبور إلى أوراسيا
تقود تركيا مشاريع جيوسياسية واقتصادية داخل منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، لتمهيد الطرق وربط المواصلات حتى يمكن الوصول عبر بوابتها إلى عمق أوراسيا، وبذلك تكون بمثابة البوابة الأهم بالنسبة إلى أوروبا للوصول إلى هذه المنطقة. فقد اقتربت من روسيا حتى حصلت على خط الغاز “ترك ستريم” الذي يمد أوروبا بالطاقة. واستحوذت على خط غاز “تاناب” الذي ينقل غاز أذربيجان عبر جورجيا وأرض الأناضول إلى أوروبا.
وامتد طموح تركيا للعبور إلى آسيا الوسطى من خلال بحر قزوين الذي تطل عليه أذربيجان؛ لنقل غاز دول مثل تركمانستان وكازاخستان إلى محطة آذربيجان ومن ثم إلى تركيا وأوروبا.
لقد كانت الحرب الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا تنفيذاً عملياً لفتح الطريق من تركيا إلى عمق أوراسيا، فقد هدفت تركيا من وراء هذه الحرب إلى توحيد أراضي أذربيجان، حتى تستطيع هذه الدولة المطلة على بحر قزوين أن تصل إلى إقليمها “نختشفشيان” الذاتي الحكم والمجاور لتركيا، والذي سيكون بمثابة بوابتها إلى أوروبا بدلاً من العبور عبر جورجيا. ومن ثم، يمكن لتركيا الوصول إلى بحر قزوين، ومن هناك إلى آسيا الوسطى، ثم باكستان والصين.
وهذا يفسر لنا الاهتمام الكبير من جانب تركيا بأفغانستان والحفاظ على التواجد هناك بعد رحيل القوات الأجنبية، وذلك لمد “الممر الأوراسي – التركي” نحو باكستان والصين والارتباط بمشروع الصين الاقتصادي “الحزام والطريق”.
إن توجه تركيا نحو أوراسيا يمنحها مكانة وأهمية لدى أوروبا، ولهذا ستكون القومية الطورانية مفتاحاً مهماً للنفوذ داخل هذه المنطقة.
إن تركيا تسعى للتحول إلى البوابة الأهم لنقل التجارة والطاقة من عمق أوراسيا نحو أوروبا. وهي تقوم عملياً بإنشاء ممرات تجارية وطاقوية لتحويل موقعها المحوري كبوابة مهمة نحو أوراسيا، ما سيُوقعها في صراعات مع دول مثل إيران وروسيا، خصوصاً أن تركيا ما زالت تمثل رأس حربة لمشاريع أوروبا وخططها.