بقلم: الحسين الزاوي – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – اعتمدت الدول عبر التاريخ على خيار العقوبات من أجل التأثير في مسار الأحداث، ولدفع خصومها إلى الإذعان لرغبتها والموافقة على تطبيق سياسات، أو الالتزام بمواقف معينة، حتى قبل أن يتم اعتماد نظام الأمن الجماعي بعد تشكيل المنظمات الدولية في القرن العشرين، وكانت العقوبات، مثل الحظر والحصار العسكري، بمثابة مقدمة لنشوب نزاع عسكري على نطاق واسع، ولم يحدث الانفصال ما بين الحروب والعقوبات التي تهدف إلى فرض احترام القانون إلا في الحقبة المعاصرة بعد تأسيس عصبة الأمم في الثلاثينات من القرن الماضي، مثلما حصل على سبيل المثال عندما تم تسليط العقوبات على إيطاليا بعد احتلالها لإثيوبيا.
وقد استندت الأمم المتحدة منذ تأسيسها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلى الإطار القانوني الذي ينظم العقوبات الدولية من أجل التأثير في سلوكيات الدول، ولتكون بذلك بديلاً فعالاً عن الدخول في حروب مدمّرة، وأشار المشرّعون، كما تقول الباحثة بربارا دولوكور، إلى مبدأ العقوبات ذات الطابع الأخلاقي لدعم القانون الدولي ولتبرير قدرته على التأثير في ظل غياب شرطة كونية قادرة على فرض احترامه من طرف كل الدول؛ وقد تطوّرت الأمور بعد ذلك في اتجاهات خالفت المبادئ الأولى التي حرص رجال القانون على وضعها، بخاصة عندما قرّرت الدول العظمى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، ممارسة دور الشرطة الكونية، والقيام بفرض عقوبات اقتصادية من دون تفويض من مجلس الأمن.
ويعرِّف أهل الاختصاص العقوبة بأنها رد فعل ملائم ومكيّف يتم اعتماده بشكل فردي، أو جماعي من طرف الدول ضد مرتكب واقعة غير مشروعة على المستوى الدولي، لضمان احترام وتنفيذ قانون، أو واجب ملزم. وبالتالي، فإن لفظ العقوبة بهذا المعنى الذي يفيد الحصار أو الحظر لا يستعمل في سياق القانون الداخلي للدول التي تملك أجهزة مخوّلة لإنفاذ أحكام القانون على الأفراد أو المجموعات التي تخالف الأحكام الملزمة، حتى إن تطلب الأمر استخدام القوة العمومية. بيد أن مثل هذه العقوبة ذات الطابع الدولي غالباً ما تصطدم بسؤال: باسم ماذا يتم تسليط العقوبة؟ وفي محاولة الإجابة عن هذا السؤال تتداخل العناصر المتعلقة بالمصالح السياسية والاستراتيجية، وبسلّم القيّم السائدة في مناطق مختلفة من العالم، بخاصة عندما يتعلق الأمر بمنظومة حقوق الإنسان، وتكمن هنا بالذات صعوبة عملية تبرير العديد من العقوبات التي لا تستند إلى مرجعية كونية.
من السهل علينا أن نلاحظ في هذا السياق أن الأمم المتحدة عملت خلال العقود الماضية على ممارسة سياسة العقوبات على المستوى الدولي في إطار متعدد الأطراف، حيث إن الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة يسمح لمجلس الأمن باتخاذ إجراءات تأديبية منصوص عليها في المادة 41 بما في ذلك استعمال القوة، كما هو مشار إليه في المادة 42 في حالات وجود تهديد للسلم، أو عدوان، لاسيما في الوضعيات التي تفشل فيها كل مساعي الوساطة السلمية؛ ولكن هذا التهديد المفترض المشار إليه لا يمكن البرهنة عليه بناء على حكم جهة قضائية مختصة، ولكنه يخضع لاعتبارات سياسية ولطبيعة موازين القوى في العالم.
وعليه، وإذا استثنينا بعض الأمثلة البسيطة التي استطاع من خلالها سلاح العقوبات الدولية أن يعطي نتائج ملموسة، كما هو الحال بالنسبة للعقوبات التي كانت مسلطة على نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا؛ فإن خيار العقوبات أبان عن محدوديته في كل المناسبات تقريباً، فقد أدت العقوبات الأممية على العراق إلى تجويع الشعب العراقي، وإلى إفقار مواطني كوريا الشمالية، ولم تكن له تأثيرات حاسمة في الأنظمة، حيث لجأت واشنطن إلى غزو العراق لتغيير النظام بعد أكثر من 10 سنوات من العقوبات الفاشلة.
وفضلاً عن ذلك، فإن خطورة سياسة العقوبات تكمن في أنها باتت تستعمل الآن خارج مظلة الأمم المتحدة، لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى، بخاصة من طرف الولايات المتحدة التي توظف سلاح العقوبات لمحاصرة روسيا ولمواجهة القوة الاقتصادية المتنامية للصين.