بقلم: د. محمد العسومي – الاتحاد الإماراتية
الشرق اليوم- فجأة انقلبت الأمور وأصبح العالم يعاني عطشاً شديداً للنفط والغاز، وذلك بعد سنتين من التخمة الهايدركربونية التي هوت بالأسعار وتسببت في أزمات مالية للبلدان المنتجة للنفط، وذلك لأسباب عدة سبق أن أشرنا لمعظمها. ومع دخول فصل الخريف والاستعداد لفصل الشتاء، حدثت تطورات سريعة ومهمة أثّرت بشدة في أسواق الطاقة العالمية.
وفي مقدمة هذه التطورات، الانفتاحات الكبيرة لاقتصادات مختلف البلدان بعد التعافي من فيروس «كوفيد – 19» بفضل التوسع في استخدام اللقاحات واكتشاف أدوية جديدة لمعالجة الفيروس، مما أدى إلى ارتفاع مفاجئ في الطلب على السلع والخدمات، وفي مقدمتها النفط والغاز، حيث لم تتمكن الإمدادات من تلبية الطلب المتنامي، كما هو الحال مع معظم السلع الأخرى، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز بنسبة كبيرة تراوحت بين 25 و30% خلال شهر واحد فقط (سبتمبر- أكتوبر)، خصوصاً أن دول «أوبك+» لم تستجب للضغوط الأميركية لزيادة الإنتاج تلبيةً الطلب المتنامي.
وإضافة إلى ذلك، ساهمت سياسة الرئيس الأميركي جو بايدن في تعميق الأزمة بعد أن قرر تقليص الاستثمارات في حقول النفط والغاز الصخريين، وهو ما أدى إلى زيادة واردات واشنطن، وزاد من الاختلال بين العرض والطلب في الأسواق، علماً بأن الولايات المتحدة تحولت في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب إلى واحدة من أكبر مصدري الغاز في العالم، حيث عللت إدارة بايدن التوجه الحالي بتقليل الانبعاثات الكربونية للمحافظة على المناخ.
إلا أن الجواب جاء على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما انتقد الولايات المتحدة قائلاً إنه «ليس بهذه الطريقة تُعالَج مسألة المناخ، أي من خلال تقليص الاستثمارات وتخفيض الإنتاج، وإنما لا بد أن يتم ذلك بالتدرج وإيجاد البديل»، وهو محق في ذلك، إذ إن تطوير مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة يحتاج إلى استثمارات هائلة وإلى وقت لإيجاد البديل، حيث لا تتوافر هذه الاستثمارات بهذه الكثافة لدى الكثير من الدول والشركات، وذلك إضافة إلى التكلفة العالية والتعقيدات التكنولوجية.
أما فيما يتعلق بنقص إمدادات الغاز لأوروبا، فقد حمّل الرئيسُ الروسي المفوضيةَ الأوروبية مسؤوليةَ أزمة شح الغاز وارتفاع أسعاره، قائلاً إن المفوضية «ارتكبت خطأً عندما قلصت العقود طويلة الأجل وتحولت إلى تداول الغاز بالبورصة»، في حين تحاول روسيا الاستفادة من أزمة الإمدادات للحصول على الموافقات الإدارية لتشغيل خط غاز نورد ستريم الجاهز للعمل والذي يربطها بألمانيا والذي تعارضه واشنطن.
الأمر الآخر الذي ساهم في نقص الإمدادات وارتفاع أسعار النفط والغاز بنسبة كبيرة مؤخراً يكمن في التراجع الكبير في الاستثمارات الجديدة في هذه الصناعة، وتوقّفَها تقريباً في النوع الصخري منهما، مما يتطلب زيادةَ الاستثمارات لتجنب أزمة حادة في السنوات القليلة القادمة، فتقرير منظمة «الأوبك» الصادر شهر أكتوبر الجاري يشير إلى أن «الطلب على النفط سيصل إلى 104.4 مليون برميل يومياً بحلول عام 2026، مقابل 99 مليون برميل حالياً، وأنه سيرتفع بنحو 17.6 مليون برميل حتى عام 2045»، مما يعني أنه لا بد من زيادة الطاقة الإنتاجية، وهذا يتطلب بدورها استثمارات كبيرة، كما أن تطوير الطاقات الإنتاجية للنفط تتوفر لدى عدد محدود من الدول وفي منطقة الخليج العربي أساساً.
ونظراً لذلك، فإنه يمكن الخروج ببعض الاستنتاجات حول أسعار وأسواق النفط والغاز للسنوات القليلة القادمة، فالطلب سيواصل الارتفاع للأسباب التي ذكرناها، في حين سيرتفع العرض، لكن بمستويات أقل، مما قد يؤدي إلى المزيد من الارتفاعات التي ستوصل سعر البرميل إلى 90 دولاراً، وستصاحبها تقلبات حادة ومضاربات ستؤدي إلى تذبذب الأسعار، علماً بأن بعض المتعاملين في أسواق السلع اتخذوا خطوات مراهنة لعقود مستقبلية بسعر 200 دولار للبرميل، لكننا نستبعد ذلك لأسباب قد لا يتحملها الاقتصاد العالمي، في حين اتخذ عدد آخر أسعار مراهنة بين 90 و100 دولار للبرميل، وهو أكثر عقلانيةً وقابليةً للتحقق في الفترة القادمة.