BY: DANI RODRIK
الشرق اليوم- لطالما اعتمدت سياسة التنمية على نوعين من النهوج. ويستهدف الأول الفقراء بصورة مباشرة، ويسعى إلى التخفيف من فقر فُرادى الأسر المعيشية من خلال دعم الدخل، والتدخلات في مجالي الصحة والتعليم، وتحسين فرص الحصول على الائتمان. ويركز النهج الثاني على تعزيز الفرص الاقتصادية ورفع الإنتاجية الإجمالية- من خلال اعتماد سياسات الاقتصاد الكلي والتجارة أو القيام بإصلاحات قانونية وتنظيمية على المستوى الاقتصادي. ويمكنك أن تسمي النهج الأول سياسة اجتماعية والثاني سياسة تنموية.
ويعتبرهذان النوعان من السياسات مكملان بصورة عامة. فالنمو الإجمالي قد لا يساعد الجميع دائمًا، خاصة الفقراء منهم. ومن ثم، ستكون برامج مكافحة الفقر ضرورية حتى عندما تؤدي سياسة النمو وظيفتها بالصورة الصحيحة. ولكن، أحيانا، يُنظر إلى السياسات الاجتماعية وسياسات النمو على أنها بدائل.
فعلى سبيل المثال، مكن الاستخدام المتزايد لتجارب السياسات العشوائية المحللين من تطوير أدلة سببية بشأن السياسات الاجتماعية- مثل المنح النقدية أو التدخلات في مجالي التعليم والصحة- بطرق نادرًا ما تكون ممكنة مع سياسات الاقتصاد الكلي أو السياسات الشاملة للاقتصاد ككل. وقد أدى هذا بدوره إلى قيام العديد من الأكاديميين والممارسين بتقليل الأهمية العملية لسياسة النمو مقارنة مع السياسة الاجتماعية.
وهذا خطأ، لأن المحددات الحقيقية للفقر قد تكون على مسافة ما من الأسر والمجتمعات الفقيرة. وتتطلب التنمية الاقتصادية وظائف منتِجة غير زراعية. وقد تؤدي زيادة فرص العمل في المدن وتشجيع الهجرة من الريف إلى المناطق الحضرية إلى زيادة الدخل بفعالية أكبر من مساعدة الناس على أن يصبحوا مزارعين أفضل أو تزويدهم بمنح نقدية.
وفي الواقع، جرت العادة أن يكون التصنيع ضروريًا للحد من الفقر. صحيح أنه غالبا ما تستغرق فوائد النمو الاقتصادي القائم على التصنيع وقتًا طويلا لتصل إلى الفئات الفقيرة من المجتمع. فخلال الثورة الصناعية في بريطانيا، تحسنت الظروف المعيشية لعمال المدن ببطء شديد، هذا إن حدث تحسن أصلا، لما يقرب من قرن إلى أن أدى ظهور النقابات العمالية والتغييرات المؤسسية الأخرى إلى تصحيح اختلال توازن القوى مع أرباب العمل. ولكن التصنيع السريع الموجه نحو التصدير الذي شهدته مؤخرا نمور شرق آسيا والصين قد اختصر هذه العملية، وأنتج معجزات للحد من الفقر إلى جانب معجزات لتحقيق النمو.
وهناك بوادر تدل بوضوح على أننا ندخل الآن حقبة جديدة لن يكون فيها التصنيع فعالاً في توزيع فوائد مكاسب الإنتاجية على مستوى الاقتصاد. فقد أدت الاتجاهات العالمية في مجال الابتكار إلى الحد بصورة كبيرة من قدرة الصناعات التحويلية على استيعاب العمال ذوي المهارات المتدنية. وقد انخفضت حصة العمالة في القيمة المضافة بسرعة في هذه الصناعات، لا سيما بالنسبة لتلك الفئة من العمال.
ورغم أن العولمة أدت إلى تسريع انتقال التصنيع من الاقتصادات المتقدمة إلى الاقتصادات النامية، فقد تبين أن سلاسل القيمة العالمية كانت في أفضل الأحوال وسيلة ضعيفة لخلق وظائف جيدة، لأنها تنقل التقنيات كثيفة المهارات ورأس المال، ولأن نموذج أعمالها يعتمد على المدخلات المستوردة وعدم التكامل مع الاقتصاد المحلي. وتعمل الصناعات التحويلية ذات القدرة التنافسية العالمية في الاقتصادات النامية بصورة متزايدة بمثابة جيوب، شأنها في ذلك شأن الصناعات الاستخراجية ذات الكثافة الرأسمالية العالية والمعَدة التصدير. إذ قد تحفز الصادرات وإيرادات أعلى في شريحة ضيقة من الاقتصاد، لكنها تتجاهل معظم العمال، خاصة الأقل تعليما منهم.
إن نموذج النمو هذا لا يرقى إلى أسس المساواة أو الحد من الفقر؛ بل أخفق أيضا في تعزيز قدر كبير من النمو لأن الأنشطة ذات الإنتاجية العالية لا يمكن أن تشمل حصة متزايدة من الاقتصاد. ومثلما نادرا ما تنمو الاقتصادات الغنية بالموارد لفترة طويلة (خارج نطاق فترات ازدهار التجارة)، فإن نموذج التصنيع لم يعد قادرًا على تحقيق نمو اقتصادي سريع ومستدام.
كيف ينبغي إذاً أن يبدو نموذج النمو اليوم؟ كما هو الحال دائمًا، تبقى الاستثمارات في رأس المال البشري، والبنية التحتية، ومؤسسات بمستوى أفضل، ضرورية لتحقيق مكاسب اقتصادية طويلة الأجل. وهذه هي أسس التقارب الاقتصادي مع الدول الغنية. ولكن استراتيجية النمو الحقيقية يجب أن تعزز إنتاجية القوى العاملة الحالية، وليس القوة العاملة التي قد تظهر في المستقبل بفضل هذه الاستثمارات.
وتحتفظ البلدان النامية بإمكانيات كبيرة لزيادة الإنتاجية الزراعية والتنويع من المحاصيل التقليدية إلى المحاصيل النقدية أو الموجهة للتصدير. ولكن حتى مع الزراعة الأكثر إنتاجية- بل وكنتيجة لها- سيستمر العمال الشباب في مغادرة الريف والتوجه إلى المناطق الحضرية. ولن يحصلوا على وظائف في المصانع،بل في المشاريع الصغرى غير الرسمية المتخصصة في مجالات الخدمات منخفضة الإنتاجية، مع توقعات توسع ضعيفة.
لذلك، سيتعين على سياسات الجيل القادم للنمو استهداف هذه الخدمات وإيجاد طرق لزيادة إنتاجيتها. والحقيقة هي أنه بالكاد هناك القليل من الشركات غير الرسمية التي ستنمو لتصبح “شركات وطنية كبرى”. ولكن من خلال تقديم مجموعة من الخدمات العامة- بما في ذلك تقديم المساعدة في مجال التكنولوجيا، ووضع خطط عمل، وسن القوانين، وتوفير التدريب لاكتساب مهارات محددة- يمكن للحكومات إطلاق العنان لتنفيذ المزيد من المشاريع بينها. ويمكن أن يكون توفير مثل هذه الخدمات مشروطا بمراقبة الحكومة وتحقيق أهداف التوظيف المرنة. وهذا من شأنه أن يمكّن من الاختيار الذاتي الإيجابي، مع ترشيح الشركات الصغرى التي تتمتع بقدرات أكبر فقط للحصول على المساعدة الحكومية.
وعادة ما تستهدف السياسات الصناعية في شرق آسيا الشركات المصنِعة الأكبر والأكثر إنتاجية، والتي من المرجح أن تصبح مصدرة. وبدل ذلك، يجب أن تركز “السياسات الصناعية” المستقبلية في الغالب على شركات الخدمات الصغرى، التي لا يحتمل أن يكون معظمها شركات مصدِرة. ويمكن لهذا الجيل الجديد من السياسات الصناعية التي تستهدف الشرائح ذات الإنتاجية المنخفضة أن يعزز سبل عيش الفقراء في المدن، ويعزز الإنتاجية في قطاعات الاقتصاد التي تستوعب العمالة.
إن أحد الآثار المترتبة على ذلك هو أن السياسة الاجتماعية وسياسة النمو سوف يتداخلان بصورة متزايدة. وأفضل سياسة اجتماعية- تمكين الحد من الفقر بصورة مستدامة وتعزيز الأمن الاقتصادي- هي خلق وظائف أكثر إنتاجية وأفضل للعمال ممن ذوي المهرات المتدنية. وبعبارة أخرى، يجب أن تركز السياسة الاجتماعية على الشركات بقدر تركيزها على الأسر. ويشير السياق العالمي والتكنولوجي الجديد إلى أن تحقيق النمو الاقتصادي رهين الآن بزيادة الإنتاجية في الشركات غير الرسمية الصغرى، التي توظف غالبية الفقراء والطبقات المتوسطة الدنيا. وقد تصبح سياسة التنمية موحدة في النهاية.