بقلم: د. منار الشوربجي – المصري اليوم
الشرق اليوم – المحنة التي يعيشها شعب جزيرة هايتي الصغيرة تجسيد صارخ لأمراض العالم. فالقرن الحادى والعشرون كشف عن تفاقم علل قديمة قدم العالم نفسه، من العنف والاستهانة بأرواح البشر للعنصرية، فضلًا عن التجاهل المخيف للكارثة المناخية التي نعيشها. فجزيرة هايتي من أفقر دول العالم. وهي منكوبة بالتدخلات الدولية والكوارث الطبيعية والعنف والفساد وعدم الاستقرار السياسي. ففي سنوات عشر، تعرضت لزلزالين كارثيين، كان آخرهما في أغسطس الماضي، تضرر منه أكثر من 800 ألف شخص بين قتيل وجريح ومشرد. وقد أعاقت الأعاصير والسيول عمليات الإغاثة، فظلَّ نصف مليون طفل بلا مأوى ولا مياه للشرب ولا صرف صحي وعرضة، وفقًا للأمم المتحدة، للكوليرا والملاريا وأمراض أخرى خطيرة.
وبين الزلزالين، عصف اغتيال رئيس البلاد بما تبقى من استقرار، إذ عادت العصابات المسلحة للساحة وارتفعت معدلات الاختطاف والقتل، الأمر الذي يفاقم المشكلات الاقتصادية ويرفع معدلات الفقر والجوع. ورغم أن المجتمع الدولي قد تعهد بدعم مالي وإنساني لهايتي، فلا يوجد ما يضمن وصولها. فعقب زلزال 2010، أطلق المجتمع الدولي وعودًا مماثلة لكن عملية إعادة البناء لم تحدث، ليس فقط بسبب الفساد وانما لأن أغلب المساعدات الدولية لم تصل أبدًا. ولأن الجزر حول العالم هي الأكثر تأثرًا بكارثة المناخ، فإن حجم المعاناة الإنسانية في هايتي، يزداد وطأة كل عام.
والدور الأمريكي في الجزيرة بالغ الخطورة، من التدخل العسكري والسياسي طوال تاريخها وحتى اليوم. فرغم الفقر الشديد، وربما بسببه، تجد العشرات من المنظمات الحكومية الأمريكية في هايتي أرضًا خصبة لعملها، فتتواجد فيها بقوة. والمساعدات الأمريكية لهايتي تتلقاها تلك المنظمات، لا حكومة هايتي، الأمر الذي يضاعف الفساد ويضعف الحكومة ذاتها. أكثر من ذلك، فإن دعم الولايات المتحدة الهائل للمزارعين الأمريكيين معناه أن المساعدات الغذائية الأمريكية تمثل إغراقًا لأسواق هايتي بمنتجات أسعارها زهيدة فيفلس المزارعون المحليون، الذين يعانون أصلًا بسبب كارثة المناخ. والنتيجة معروفة، إذ يزداد حزام الفقر حول المدن فتصبح مرتعًا لعنف العصابات المسلحة.
كل تلك المآسي تجعل هايتي، التي وصفها أحد مسؤولي الخارجية الأمريكية «بالكابوس الإنساني»، عاجزة عن توفير حياة آدمية آمنة لأبنائها فيهربون بالآلاف من أجل البقاء على قيد الحياة في البلدان المجاورة. لكن دول الجوار التي تعيش كوارث مشابهة صارت، هي الأخرى، طاردة للهايتيين، الذين لم يعد أمامهم سوى اللجوء الجماعي للولايات المتحدة. وكانت آخر موجات ذلك الرحيل الجماعي للهايتيين من دول القارة لا فقط من هايتي نفسها، قد وصلت مؤخرًا للحدود الأمريكية المكسيكية، فلاقت الأهوال. وهي موجة توقعتها السلطات الأمريكية، بالفعل، حتى أن وزير الأمن الداخلي الأمريكي كان فور حدوث الزلزال قد هدد الهايتيين وحذرهم من محاولة اللجوء لبلاده.
وقد شهد العالم بالصوت والصورة ما جرى على الحدود الأمريكية – المكسيكية. فحرس الحدود الأمريكيون امتطوا خيولهم وبدوا كأنهم يلاحقون الهايتيين بالسوط، وشرعت الطائرات الأمريكية «تشحن» أولئك المهاجرين إلى هايتي رغم أن بعضهم كان يعيش خارجها أصلًا. ورغم أن مصادر رسمية نفت استخدام السوط، إلا أن الرئيس بايدن كان قد أدان بنفسه ما قام به حرس الحدود وتعهد بالعقاب الرادع.
ورغم أن مشهد الخيل والسوط في يد حراس الحدود البيض كان صادمًا لكل من رآه، إلا أنه كان أكثر وطأة بالنسبة لسود أمريكا لأنه يماثل مشاهد زمن العبودية، باعتراف نائبة الرئيس الأمريكي، فلم يملك السود سوى أن اعتبروا المعاملة الوحشية للهايتيين على يد سلطات بلادهم سببها ببساطة لون بشرتهم الأسود.