بقلم: أسامة رمضاني – النهار العربي
الشرق اليوم – وأخيراً عيّن هذا الأسبوع الرئيس قيس سعيد حكومة جديدة تقودها الجامعية نجلاء بودن.
قرار سوف يساهم في تهدئة الأجواء بين تونس وبعض الأطراف الأجنبية التي بقيت تلحّ على الإسراع بتشكيل الحكومة، بشكل لفت الانتباه وأزعج إلى حد ما السلطات التونسية.
إلحاح رفضه الرئيس قيس سعيد، ورد عليه الرئيس الجزائري بالقول “من يرد حكومة فليشكلها في بلاده”.
انتظر معظم التونسيين بفارغ الصبر الحكومة الجديدة، لكن الكثير منهم لم يفهم تماماً مغزى الإلحاح على هذا الموضوع بالذات، وإن كان عديد الخبراء يفسرونه بحرص المانحين وبعض شركاء تونس التقليديين على اجتناب أي فراغ في المؤسسات قد يتسبب في إدخال البلاد في حالة من عدم الاستقرار.
في ظل مثل هذه التجاذبات، تسعى الدولة التونسية إلى البحث عن توازنات توفق بين احترازات الدول الأجنبية بخصوص بعض جوانب المسار المتبع منذ 25 يوليو من قبل الرئيس سعيد (والمبني على أساس تطبيق الأحكام الاستثنائية) من جهة، وحفاظ السلطات من جهة أخرى على استقلالية القرار الوطني كخيار سيادي.
هذا المسعى التوفيقي لا مفر منه وقد يتواصل إلى فترة. رغم الاستنكاف من كل مظاهر التدخل الخارجي، تعرف تونس أن هناك مصالح اقتصادية حيوية تستدعي السعي إلى طمأنة الخارج. رئيسة الحكومة نفسها أكدت، في مداخلة لها بعد أدائها اليمين الدستورية، أن “استعادة الثقة في الدولة” لا بد أن تشمل ثقة الأطراف الأجنبية في تونس، وهي “ثقة لا تتحقق إلا بتطبيق القانون على الجميع”.
إن خطت حكومة بودن خطوات جادة في هذا الاتجاه، فسيكون لذلك تأثير ملموس على صورة تونس في الخارج. فالالتزام بتطبيق القانون بلا تمييز على الأشخاص والمؤسسات، من شانه أن يبعث برسالة إيجابية للمستثمرين الأجانب الذين كثيراً ما يثبط عزائمهم عدم وجود تصميم كاف لدى السلطات الحكومية والقضائية، لحماية حقوق أصحاب المشاريع والفصل في النزاعات بكل حيادية.
في المستقبل المنظور، لا تستطيع تونس أن تخفي حاجتها إلى مساعدة الدول الشقيقة والصديقة لتجاوز عجز الموازنة وتأمين احتياجاتها المالية. وقد حاول محافظ البنك المركزي مروان العباسي التخفيف من انشغالات التونسيين بالقول إن الدول الصديقة مستعدة لتقديم يد المساعدة إلى تونس. ولكن ذلك لن يتحقق من دون تحرك مكثف من الحكومة الجديدة.
وتثير الحاجة إلى المساعدة الاقتصادية في بعض الأحيان حساسيات في الداخل، إذ كان الرئيس قد رفض مواقف وكالات التصنيف الائتماني، على أساس أنها تضع تونس في موقع التلميذ أمام أستاذه.
من الواضح أن السلطات التونسية تسعى لتجنب المواجهة مع العواصم الغربية المهتمة بالوضع الداخلي في تونس، ومن بينها خصوصاً باريس وواشنطن وبرلين. ولكنها تحاول في الوقت نفسه وضع حدود تحمي استقلالية القرار التونسي في مرحلة حساسة من تاريخ البلاد.
وهي في هذا الإطار تجتنب التركيز على القضايا الخلافية التي لا تشكل أولوية للبلاد. من جملة هذه القضايا الجدل المحتدم في فرنسا حول الهجرة والمرتبط بالحملة الانتخابية الرئاسية. هذا الجدل يزعج معظم التونسيين اعتباراً للنبرة العنصرية التي تطبعه وانعكاساته الممكنة على الجالية التونسية في فرنسا.
اجتنبت تونس الصدام مع باريس، حتى بعد القرار الفرنسي بتخفيض عدد التأشيرات الممنوحة للتونسيين (إلى جانب الجزائريين والمغاربة).
فتونس لم ترد مباشرة على القرار الفرنسي المتعلق بتخفيض عدد التأشيرات بالثلث، واكتفت ببيان أصدره قصر قرطاج عقب محادثة هاتفية أجراها الرئيس سعيد مع ماكرون، بالقول إن الرئيس التونسي أعرب عن “أسفه” للقرار الفرنسي، وإن باريس قد تتراجع عن قرارها. وهي تصريحات لم يؤكدها الإيليزيه.
اجتنب المسؤولون التونسيون إلى حد الآن الدخول في مشاحنات لفظية مع العواصم الغربية، حتى بعد إصدار هذه العواصم بيانات يمكن تأويلها على أنها محاولات للضغط على تونس، خاصة إثر محادثات هاتفية جرت بين قادتها والرئيس التونسي. بل اختارت تونس أن تصدر بيانات تتضمن صيغاً تجتنب الخوض علناً في النقاط الخلافية.
ولكن الرئاسة والخارجية التونسيتين كانتا أقل تحفظاً تجاه تحريض معارضي سعيد للدول الغربية، وخاصة فرنسا، للتدخل في الشأن التونسي.
ندد الرئيس التونسي في هذا الاتجاه بالتصريحات المنسوبة إلى الرئيس الأسبق محمد منصف المرزوقي (دون أن يسميه)، والتي دعا فيها باريس للضغط على السلطات التونسية “بكل الوسائل”.
وهناك البعض الآخر من معارضي سعيد طالبوا أيضاً واشنطن بممارسة ضغوط على تونس.
تثير النداءات الداعية للتدخل الأجنبي جدلاً شديداً في تونس. فالأغلبية ترفض تحريض بعض القوى الأجنبية للخارج بشكل قد يؤدي إلى الإضرار بمصالح الدولة التونسية، وتعتبر ذلك انزلاقاً خطيراً في العمل السياسي.
تبدو تطورات الوضع الداخلي وارتداداتها الخارجية مؤهلة لمزيد التشعب خلال الفترة المقبلة، اعتباراً للمواعيد المقبلة، ومن بينها مناقشة الكونغرس الأميركي المتوقعة للوضع الراهن في تونس.
هناك أيضاً الموقف الملتبس للمعارضة تجاه استضافة تونس للقمة الفرنكفونية المقبلة، بين من يحاول إحراج سعيد بالزعم أن هذه القمة تهدف إلى إعادة “الاستعمار الفرنسي”، ومن يرغب في تشجيع المنظمين على نقل القمة إلى مكان آخر احتجاجاً على سياسات سعيد، أو بالزعم أن تونس غير قادرة على توفير الأمن لهذا الحدث الدولي. وقد توقف الجدل إلى حين بعدما قررت منظمة الفرنكفونية تأجيل القمة إلى خريف 2022 مع إبقاء مكانها في تونس لاستكمال الاستعدادات لها. إلغاء الحدث أو نقله إلى مكان أخر خارج تونس كان في الواقع سيشكل موقفاً محرجاً للمعارضين أكثر من إحراجه لسعيد نفسه، نظراً للضرر الذي كان سيلحقه بصورة تونس ومصالحها الخارجية.
تقدّمُ سعيد نحو اتخاذ خطوات ملموسة جديدة لمزيد حلحلة الوضع بعد تعيين الحكومة الجديدة ـ وهي خطوات يطالب بها أنصار سعيد قبل معارضيه ـ يمكن أن يوضح المشهد في الداخل، في الوقت الذي سيبعد شبح الضغوط الخارجية.
فالتقدم على صعيد إنجاز الخطوات الإصلاحية القادمة، على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ضروري بالنسبة لاستقرار البلاد وقدرتها على تجاوز الأزمات الراهنة، خاصة بعدما تحقق لفائدة سعيد شبه إجماع في الداخل والخارج على أن العودة إلى وضع ما قبل 25 يوليو لم تعد مطلباً واقعياً.