بقلم: أحمد نظيف – النهار العربي
الشرق اليوم – على أبواب الانتخابات الفرنسية المقبلة، يبدو أن المشهد التنافسي يدور حول الصراع اليميني – اليميني، فيما يعاني اليسار الفرنسي أزمة مديدة. ويبدو أيضاً أن اليمين الشعبوي يعيش ربيعه غير المسبوق، وسط ارتفاع أسهم إيريك زمور في سوق استطلاعات الرأي. وزمور، لا يخالف تقاليد اليمين الشعبوي في الميل إلى اتخاذ أشكال إقصائية للغاية ومعادية للأجانب، حيث يتم تعبئة الناس في مواجهة الآخر، ولا سيما المهاجرين والأقليات العرقية والدينية.
تنظر الشعبوية بمختلف مدارسها، إلى المجتمع على أنه مقسّم إلى مجموعتين متجانستين ومتعاديتين: الشعب الصافي والنخبة الفاسدة، حيث صوّر الشعبويون أنفسهم على أنهم معادون للنخبة، ومعادون للتعددية، وأنصار الأخلاق، والممثلين الشرعيين الحصريين للشعب في تحدٍ للنخب السياسية غير المستجيبة. يركز الخطاب الذي يستخدمه القادة الشعبويون عموماً على تصوّر وجود دولة في أزمة تحتاج إلى حل. وغالباً ما يستخدمون ذخيرة مسرحية واستطرادية تخلق توتراً بين الكتل المعادية. بيد أن هذا النسق الفكري، المتماهي مع العنصرية، لم تكن له حتى وقت قريب منصات عامة يعبر من خلالها، حتى جاء عصر شبكات التواصل الاجتماعي، فانتعش وتمدّد في شكل غير مسبوق.
وتكسب وسائل التواصل الاجتماعي قيمتها من كونها أداة اتصال منخفضة التكلفة ومريحة يمكن أن يستخدمها شعبويو المعارضة للوصول إلى مؤيديهم، ومن قبل النظام الحاكم للتواصل مباشرة مع الناخبين، ومن قبل قوى خارجية لنشر أخبار كاذبة. حيث يمكن استغلال هذه المنصات لنشر أخبار وروايات زائفة مستقطبة ومثيرة للانقسام ومعادية لأنها تفتقر إلى التحقق من الحقائق الموجودة في وسائل الإعلام التقليدية. كما تساعد الشعبويين – سواءً كانوا مرشحين وكجزء من النظام الحاكم – على تجميع الناس وتوحيدهم لتعزيز قضية مشتركة ضد المؤسسة السائدة والحريات وتقويض الركائز الديموقراطية. فيما تستخدم الجهات الخارجية هذه الوسائل للتدخل في الانتخابات في الدول الديموقراطية الضعيفة لإحداث المزيد من تآكل الثقة في النظام الديموقراطي.
لقد شكل انتشار الإنترنت عالمياً وديموقراطية المعرفة فتحاً عظيماً للحركة الشعبوية في كل مكان، حيث ساعدت الثقافة الإلكترونية، في تعزيز فكرة الإدانة الجماعية للنخب التي يبشر بها أي زعيم شعبوي ومن يتبعه، فقد أصبح نشر هذه الأساطير حول المعلومات المفترضة مجانياً وسهلاً وفعّالاً، ضد “الروايات الرسمية” الزائفة حتماً في يقين هؤلاء، فالإنترنت، ولأنها تميل إلى الخلط المنهجي بين الرقابة والحذر والإخفاء، هي الأداة المثالية لنشر نظريات الشعبوية. ويعتقد كثيرون أنه بفضلها سنتمكن أخيراً من الاستغناء عن المعلّم والصحافي والناشر والمذيع.
توفر وسائل التواصل الاجتماعي منصة للشعبويين لكسب دعم الناس ضد السائد، فالشعبويون قادرون على توحيد الناس المشتتين والمقسمين بطريقة أخرى للترويج لقضية مشتركة، واستغلال موجة الاهتمام للمنصات وتصفية تأثير الفقاعة. وبهذه الطريقة، يطوّر الشعبويون أتباعاً عبر الإنترنت لأفراد متشابهين في التفكير ومجتمعات منعزلة تختبر واقعها الخاص وتعمل بحقائقها الخاصة. ولعل أكثر مثال على هذا السلوك، ما حدث في البرازيل خلال انتخابات 2018، التي صعد فيها بولسونارو، وهو مرشح يميني متطرف، رئيساً بنسبة 55 في المئة من الأصوات، ما وضع حداً لحقبة الديموقراطية الاجتماعية التي تم وضعها بعد نهاية الديكتاتورية العسكرية في الثمانينات من القرن الماضي. في هذه الانتخابات، استخدمت حركة المعارضة اليمينية المتطرفة في شكل علني انتشار المعلومات المضللة والأخبار الوهمية عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز خطابها. وشمل ذلك هجمات ضد “حزب العمال”، المنافس الرئيسي لليمين الشعبوي، كما استخدمت حملة بولسونارو أيضاً منصات وسائل التواصل الاجتماعي لمهاجمة النسويات ومجموعات الأقليات، بما في ذلك مجتمع المثليين والسود والسكان الأصليين.
ويبدو أن منصات وسائل التواصل الاجتماعي لها تأثير راديكالي في الديموقراطيات الضعيفة، ما يسهل صعود المرشحين الشعبويين الذين يقوضون الأعراف والمؤسسات الديموقراطية في البلاد وقد يؤدي إلى تغيير النظام، حيث تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ملعب لنشر الأخبار الكاذبة والسرديات المستقطبة والمثيرة للانقسام والمعادية للحريات، وكل ذلك يساعد الشعبويين على تجميع الناس وتوحيدهم لتعزيز قضية مشتركة ضد “المؤسسة السائدة أو النخب الفاسدة”، ووضع أنفسهم كبدائل جديرة بالحكومات القائمة. فيما تحاول القوى الخارجية أيضاً استخدام منصات التواصل الاجتماعي للتدخل في الانتخابات الديموقراطية لهذه البلدان.
وبدرجة أقل، قد يؤدي انتشار الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة والأكاذيب عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي كجزء من “إدارة الادراك” الخبيثة التي ينسقها الشعبويون المحليون والقوى الخارجية إلى إضعاف الأنظمة الديموقراطية الليبرالية القوية. فمثل هذه الحملات على وسائل التواصل الاجتماعي تضخم وجهات النظر المتطرفة والاستقطاب ونظريات المؤامرة والشكوك حول المؤسسات والعمليات الديموقراطية وتضعف ثقة الناس في هذه المؤسسات. في الديموقراطيات الراسخة، يكون تآكل الركائز الديموقراطية أقل دراماتيكية مما هو عليه في الديموقراطيات الضعيفة لأن ضوابط وتوازنات الأنظمة الديموقراطية الراسخة تظل حماية قوية ضد المعارضين الشعبويين المحليين والجهات الخارجية الخبيثة.
لكن، وعلى أهمية شبكات التواصل الاجتماعي في توسيع نطاق الشعبوية، سياسياً وشعبياً، فإنه يجب دائماً العودة إلى الجذر الأصلي لهذا الوباء وهو فقدان الثقة غير المسبوق بفئات متزايدة الاتساع من الشعب تجاه “الأحزاب الحاكمة” والطبقة السياسية في شكل عام، لصالح “الشعبويين”، هي بلا شك حقيقة الأمر في المشهد السياسي الذي حدث منذ عقدين على الأقل في فرنسا. بل إن الظاهرة تميل إلى التسارع، كما أظهر انتخاب دونالد ترامب في 2017، وما أعقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. في كل مكان يتأكد مدى الهوة التي تفصل الشعب عن الطبقة الجديدة الحاكمة. وفي كل مكان تظهر انقسامات جديدة تجعل الانقسام القديم بين اليمين واليسار قد عفّى عليه الزمن.