بقلم: محمد قواص – النهار العربي
الشرق اليوم – تتبادل باريس والجزائر هذه الأيام الخدمات التي من شأنها مقاربة استحقاقات الداخل في البلدين. تعاني فرنسا من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية يشتد الحديث عنها بضراوة قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية في نيسان (أبريل) المقبل. وتعتري النظام السياسي في الجزائر أزمة داخلية عبّرت عنها بوضوح انتخابات تشريعية قوبلت بحرد شعبي يمثّل حال التباعد المقلق ما بين الجزائريين ونظام الحكم في بلادهم والذي لم تعالجه وعود ما بعد الحراك الشعبي.
يلجأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تناول ملف شديد الحساسية، ليس في علاقات بلاده بالجزائر فقط، بل في الجدل الفرنسي الداخلي المتعلّق بتقييم تاريخ فرنسا ودورها حين استعمرت الجزائر عام 1830 ولمدة 132 عاماً، كما النقاش المستعر حالياً حول الموقف من الهجرة والمهاجرين. في الجزائر من يرى، ومن على منابر الدولة، أن فرنسا ما زالت حتى الآن، وبعد ستة عقود على خروج قواتها من البلاد، أصل البلاء ومصدر علل البلاد. وفي فرنسا من يأخذ، حتى الآن، على باريس وشارل ديغول التخلي عن “الجزائر الفرنسية” وما أحدثه ذلك من مآسٍ لفرنسا والفرنسيين المتحدرين من هناك.
بين البلدين خلاف على قراءة المشترك في تاريخهما. لكن أمر رفع مستوى التوتر حول هذا الخلاف موسميّ ظرفي، له علاقة بحاجة البلدين إلى إثارة مسائل الماضي خدمة لأغراض الحاضر. ولئن درجت حكومات الجزائر على “الاستفاقة” على هذا الجدل الجلل كلما تأزّمت أوضاع الداخل وشعرت بالحاجة إلى تبرير شرعية النظام السياسي في البلاد (“ريع الذاكرة” بحسب ماكرون)، فإن هذا الملف لطالما كان في فرنسا مادة سجال تستخدمها أحزاب اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية لشدّ عصب قومي فرنسي يمجّد الحقبة الفرنسية في الجزائر من جهة، ويصبّ جام غضبه على الهجرات التي ما زالت الجزائر تقذفها باتجاه فرنسا.
غير أن للنزاع التقليدي بين البلدين عبقاً آخر هذه المرة. فأن يتناول رئيس فرنسي، لا سيما إيمانويل ماكرون، رؤية بلاده الفجّة للجزائر، فإن ذلك ليس موضوعاً عابراً أو زلّة لسان غير مقصودة، ذلك أن للموقف المنسوب للإليزيه تداعيات مباشرة على العلاقات الرسمية بين البلدين. بكلمة أخرى، أراد ماكرون في 30 أيلول (سبتمبر) أن يخرج بمطالعة استفزازية تتساءل عن وجود “أمة جزائرية” قبل الاستعمار الفرنسي منتمياً في تساؤله إلى الخطاب الفرنسي القديم الذي يبرر استعمار بلدان تقطنها قبائل متناثرة لا تجمعها أمة. أراد أيضاً أن يلقي بنظرياته أمام جمهور هو جزائري الأصول. وأراد لهذا الكلام أن ينتشر على النحو الذي عرضته صحيفة “لوموند” العريقة. وربما أيضاً أراد استدراج حكومة الجزائر إلى ردّ فعل لافت، وربما صاخب، على النحو الذي قامت به فعلاً باستدعاء سفيرها وإقفال أجواء الجزائر أمام الطيران العسكري الفرنسي.
من حقّ الجزائر أن ترفض الفتوى التي أصدرها ماكرون عن “الأمة الجزائرية” وتاريخ وجودها، وأن تنفي زعمه أن تاريخ البلد “أعيدت كتابته بالكامل ولا يستند إلى حقائق إنما على خطاب يرتكز الى كراهية فرنسا”. وبغض النظر عن وجاهة تلك المزاعم أو جوفها فإن الجزائر انتهزت مناسبة لا تفوت (مرة أخرى) لإظهار حرص وطني على الدفاع عن البلد وتاريخه. وربما من حق الجزائر أيضاً أن لا تسمح بأن يكون البلد -الذي خضع لاستعمار فرنسي سيئ الصيت- مادة ينهل منها المرشح إيمانويل ماكرون خدمة لحملة انتخابية يتسابق داخلها مع اليمين المتطرف الذي تحتل رموزه ميدان النقاش في فرنسا هذه الأيام. ويدفع التنافس السياسي الراهن في فرنسا نحو النهل من قيم الشعبوية اليمينة التي يروج إيريك زمور (اليهودي المتحدر من أصول جزائرية) لها ببراعة هذه الأيام والذي يعتبر أن “لا وجود للجزائر بل هي اختراع فرنسي”، فيما تتراجع مساحات اليسار والوسط في هذا البلد.
النشيد الوطني الجزائري هو النشيد الوحيد في العالم الذي يتوعّد دولة أخرى. “يا فرنسا قد مضى وقت العتاب…” وكلمات أخرى تربّت الأجيال على تعلّمها بما يجعل من “الوطنية” الجزائرية نقيضاً لفرنسا (أو ما سمّاه ماكرون كرهاً لها). والحال أن مفارقة تُسجّل في نظرة ماكرون إلى الجزائر في مقاربته لموقعه في رئاسة الجمهورية. زار الرجل الجزائر مرشحاً للانتخابات الرئاسية في بلاده عام 2017. أعاد الزيارة بعد انتخابه واستقبل بحفاوة شعبية أذهلت الرئيس الشاب الذي انتزع منصبه بنسبة وصلت إلى 66.1 في المئة. ندد الرجل هناك بالاستعمار واعتبره “جريمة ضد الانسانية”.
على طريق “المصالحة” شارك ويشارك ماكرون في احتفالات تذكارية في إطار الذكرى الستين لنهاية حرب الجزائر، وهي اليوم الوطني لـ “الحركيين”، الجزائريين الموالين لفرنسا، وذكرى قمع تظاهرة للجزائريين في باريس في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1961، وذكرى اتفاقيات إيفيان في 19 آذار (مارس) 1962. تسلّم ماكرون من المؤرخ الفرنسي (المولود في قسنطينة في الجزائر) بنجامان ستورا تقريره عن الاستعمار وحرب الجزائر 1954- 1962، والذي ضمّ مقترحات لإخراج العلاقة بين فرنسا والجزائر من الشلل الذي تسببه قضايا الذاكرة العالقة.
لم يستطع كل الرؤساء الفرنسيين منذ انتهاء الحرب هناك الذهاب بعيداً في ما تطلبه الجزائر من اعتذار تتقدم به فرنسا للبلاد. وحتى حين أدلى ماكرون بإدانة الاستعمار، فإن الرجل أعاد ضبط هذا الإيقاع واستخرج من توصيات ستورا الفتاوى المناسبة. باختصار فإن فرنسا “تعترف”، لكن “الندم والاعتذار غير واردين”.
في 20 أيلول (سبتمبر) أقام الرئيس الفرنسي في قصر الإليزيه حفل تكريم لـ “الحركيين” الجزائريين الذين قاتلوا في صفوف الجيش الفرنسي خلال حرب الجزائر، معلناً إقرار قانون تعويض قريباً. طلب ماكرون “الصفح” منهم باسم فرنسا، باعتبار أن البلاد “أخلّت بواجباتها” حيالهم. ذهب أبعد من سلفه فرنسوا هولاند، الذي أقرّ عام 2016 “بمسؤولية الحكومات الفرنسية في التخلي عن الحركيين”. في المقابل فإن الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة كان في عام 2000 قد وصف “الحركيين” بالعملاء.
لن تتصالح فرنسا والجزائر حول قضايا الذاكرة. متلازمة استوكهولم قد تربط الجزائر والجزائريين بدولة الاستعمار القديم. فرنسا غادرت الجزائر قبل ستة عقود لكن فرنسا ما زالت حاضرة في لغة الجزائريين وثقافتهم وجدلهم كما أنها وجهة سفرهم الأولى حين ينوون اجتياز المتوسط صوب “الغرب” الكبير. على أن الارتباك المذهل في رؤية فرنسا يكمن في تمرين مزدوج ذهب إليه ماكرون، في السعي إلى معالجة الاستعمار للجزائر ومداواة أوجاعه، وفي ذهابه بعدم الاعتراف بوجود “الأمة الجزائرية” قبل وجود هذا الاستعمار. وفي ذلك ما يعبّر عن استمرار باريس في التعامل مع الجزائر بصفتها مولودها الذي تستمر في الزعم بأبوته الأزلية.