بقلم: أسامة رمضاني – النهار العربي
الشرق اليوم – أخيراً بعد انتظار طويل، عيّن الرئيس التونسي قيس سعيد رئيس حكومة، أو بالأحرى رئيسة حكومة.
لفت التعيين الانتباه، باعتباره وضع على دفة قيادة الحكومة امرأة، وذلك لأول مرة في تاريخ تونس. كان الترحيب بنجلاء بودن واسعاً، وشمل حتى بعض معارضي سعيد أنفسهم. بحسب استطلاع للرأي، يشعر ما لا يقل عن 67 في المئة من الأشخاص المستجوبين بارتياح الى هذا التعيين.
كانت الرمزية التاريخية للتعيين في كثير من الحالات أقوى من دلالاته السياسية أو قيمته المرتقبة على صعيد معالجة الأزمة الاقتصادية، حتى وإن كان تأثيره الأولي إيجابياً في الأسواق المالية.
بالنسبة الى المرحّبين، كان التعيين تأكيداً لتقاليد المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة في تونس، وتماهياً مع الإرث الإصلاحي والتقاليد التقدمية التي رسخها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة منذ الاستقلال سنة 1956.
دغدغ التعيين المخيال الشعبي، إذ قارن البعض بين نجلاء بودن وأنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية المتخلية، في تعبير عن إصرار متدفق عند البعض على الحلم أكثر منه البحث الموضوعي عن وجوه الشبه بين رئيسي حكومة في عالمين مختلفين.
لم تكن المواقف الإيجابية تجاه التعيين مفاجئة. فقد كان هناك دوماً استعداد مبدئي لدى غالبية التونسيين للقبول بارتقاء امرأة سدة رئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة.
لكن المواقف التي عبّر عنها التونسيون لم تخلُ من بعض التناقض، وبخاصة لدى الشرائح الناشطة على المنصات الإلكترونية، والتي أظهرت اهتماماً في غير محله بلباس بودن ومظهرها الخارجي. وهو اهتمام قلما يبديه أحد عندما يتعلق الأمر برجل في موقع المسؤولية. وذلك يجب أن يشجع رئيسة الحكومة الجديدة على أن لا تتأثر كثيراً بالمواقف في الشبكات الاجتماعية ودردشاتها المنفلتة من كل عقال.
لكن كانت هناك مآخذ أكثر جدية، من بينها الانتقادات التي عبّرت عنها بعض الشخصيات النسوية والسياسية، باعتبار أن بودن كُلّفت تشكيل الحكومة في إطار قانوني وسياسي، يعطيها صلاحيات محدودة مقارنة بالصلاحيات التي كانت لرؤساء الحكومة السابقين في ظل المنظومة السابقة، وذلك قبل لجوء الرئيس التونسي إلى الفصل 80 من الدستور لإقصاء رئيس الحكومة وتجميد البرلمان، ثم لإصدار أحكام استثنائية تجعل منه الطرف الذي يعيّن فعلياً الوزراء، وتجعل الحكومات مسؤولة أمامه وليس أمام السلطة التشريعية.
وبالتالي، فإن مآخذ المعارضة السياسية على التعيين تلخصت في أن البرلمان لن يكون له دور في التصديق على تعيينها، وأن الصلاحيات المحدودة نسبياً لرئيسة الحكومة الجديدة لن تسمح لها بتقاسم السلطة مع سعيد.
ليست رئيسة الحكومة الجديدة مسؤولة عن النظام الدستوري أو السياسي الذي يتنزل فيه تعيينها. هي مسؤولة فقط عن مدى قدرتها على تحمل المسؤوليات المناطة بعهدتها. وقد قبلت بودن تحمل أعباء المنصب في ظرف متأزم على مختلف الصعد. وهذا يُحسب لها.
والقول بأن سعيد سعى من وراء اختيار شخصية نسائية لكسب التأييد الداخلي والخارجي في مواجهة الانتقادات الموجهة إليه بالانفراد بالسلطة لا يستنقص من قيمة نجلاء بودن، إذ ليس غريباً أن يقرأ صاحب القرار حساب الربح والخسارة من وراء كل قرار، بما في ذلك الربح الذي يمكن أن يجنيه على صعيد التموقع السياسي أو تحسين صورته لدى الرأي العام. وسعيد بكل تأكيد يعرف أن السياسة تحكمها في نهاية المطاف نتائج القرارات المتخذة لا درجة قبول الجمهور الوطني والأجنبي بها.
وهنا بيت القصيد.
لن يكون التحدي بسيطاً للفريق الوزاري الجديد. نجلاء بودن هي عاشر رئيس حكومة في عشر سنوات. سوف تحتاج استقراراً صعب الاحتمال. وقد كان عدم الاستقرار (إلى جانب المحاصصات الحزبية وقلة التجربة وغياب الكفاءة أحياناً) من بين معوّقات العمل الحكومي لسنوات بعد 2011.
سيكون الوقت ضاغطاً على بودن، إذ لا أحد يعرف كم ستدوم مدة تعيينها في ظل الأحكام الاستثنائية والظروف السياسية المتوترة. وسيكون على الأرجح من الصعب لرئيسة الحكومة الجديدة أن تجد متسعاً من الوقت لوضع إصلاحات بعيدة المدى وتنفيذها.
لن يمنحها الوضع السياسي حداً أدنى من الوقت لتبلغ درجة كافية من الدّربة على تسيير العمل الحكومي، والتنسيق بين الوزراء، واستكشاف الملفات، أو للتعود على طريقة عمل الرئيس بوصفه المشرف الرئيسي على عملها.
وستكون بودن قد أدت مهمتها على أحسن وجه، إن هي استطاعت معالجة الملفات الاقتصادية الملحة، وتحقيق التفاهمات اللازمة في هذا الإطار مع الطرف الاجتماعي الأبرز في الداخل (وهو اتحاد العمال)، ومع أهم المانحين في الخارج، ومن بينهم صندوق النقد الدولي.
لن تكون الطريق أمامها مفروشة بالورود، ولكن العوائق التي سوف تواجهها بودن في تحمل مهامها قد تكون أيضاً عوامل تعمل لفائدتها.
التجارب السابقة للمسؤولين في المناصب العليا سيف ذو حدين. ففيما يرى البعض أن عدم تحملها مسؤوليات وزارية أو سياسية سابقة قد يشكل عائقاً أمام نجاعة عملها، يعتقد آخرون أن ذلك سوف يجعلها بعيدة من شبهة الانتماء إلى هذا المعسكر السياسي أو الحزبي أو ذاك. كما أن غياب الاعتبارات الحزبية أو البرلمانية في تشكيل الحكومة، وإن كان سيحرمها من أي دعم سياسي غير دعم الرئيس، فإنه سيعزز الانطباع باستقلاليتها عن الأحزاب، في وقت فقدت فيه معظم الأحزاب مصداقيتها.
حتى الآن لم تتحدث رئيسة الحكومة الجديدة إلى الشعب. لذا كان الكلام لحد الآن حولها لا منها.
ما زال سجلّها اليوم صفحة بيضاء سترسم عليها ما تشاء من الوعود والتصريحات، وإن كان المنطق يدعوها إلى عدم إطلاق وعود تتجاوز قدرتها على التنفيذ.
وسينبني الحكم النهائي على النتائج التي ستحققها بودن على صعيد مواجهتها الأزمات التي ورثتها عن عشرية كاملة، وبخاصة منها الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي فشلت الحكومات السابقة في التخفيف منها.
وما دام اهتمام الأطراف الفاعلة على الساحة منصباً على الصراع السياسي، فإن مهمة بودن لن تكون سهلة. وما لم يساهم معظم التونسيين أيضاً في إحياء قيمة العمل، فلن يكون من الواقعي أن يتوقعوا من رئيسة حكومتهم أداء مثل أداء أنجيلا ميركل.
يبقى الأمل، رغم كل شيء، معقوداً على مهندسة الجيولوجيا كي تغير قواعد اللعبة التي أفسدتها أخطاء الساسة.