الرئيسية / مقالات رأي / الصين بين متابعة سياسة الانفتاح الاقتصادي أو العودة لأيام ماو تسي تونغ

الصين بين متابعة سياسة الانفتاح الاقتصادي أو العودة لأيام ماو تسي تونغ

بقلم: د. عماد بوظو – موقع الحرة

الشرق اليوم- أحداث كثيرة وقعت خلال الفترة الماضية جميعها تشير إلى أن الحكومة الصينية أصبحت تضيق ذرعا بالآثار التي ترتبت على سياسة الانفتاح الاقتصادي التي سارت عليها طوال العقود الماضية، فقبل بضعة أشهر بدأت الحكومة تحقيقا مع مجموعة علي بابا الصينية القابضة، التي تعتبر واحدة من أكبر شركات التكنولوجيا الرقمية في العالم، وأكثرها نجاحا، بتهمة القيام بممارسات احتكارية، وفرضت عليها غرامة بقيمة 2.78 مليار دولار.

يعمل لدى هذه الشركة أكثر من ربع مليون موظف، وبلغت قيمتها السوقية أكثر من 500 مليار دولار عام 2018، وتجاوزت إيراداتها 109 مليارات دولار عام 2021، وحققت أرباحا صافية بحدود 22 مليار دولار في نفس العام، وهناك غموض حاليا حول وضع مؤسسها “جاك ما” الذي كان أغنى رجل في الصين لأنه لم يعد يظهر كثيرا للعلن بعد انتقاده أجهزة البلاد التنظيمية قبل سنة من الآن.

وقد يكون السبب الحقيقي لإجراءات الحكومة الصينية القلق من زيادة قوة ونفوذ هذه المجموعة، بعدما أصبحت تسيطر على نسبة كبيرة من عمليات التسوّق ودفع الفواتير والحصول على القروض، والكثير من المهام اليومية الأخرى داخل الصين.

وقبل أسابيع علّقت الحكومة الصينية خطة شركة “بايت دانس” المالكة لتطبيق “تيك توك” الشهير لطرح أسهمها خارج الصين، مع أن لهذه الشركة 800 مليون مستخدم نشط يوميا، وبلغت قيمتها 78 مليار دولار عام 2018، كما فرضت غرامات على شركة “ديدي” المنافس لتطبيق “أوبر” الأميركي بتهمة القيام بانتهاكات في جمع واستخدام المعلومات الشخصية، وأمرت متاجر خدمات الإنترنت في الصين بإزالة هذا التطبيق مما أدّى لفقدان الشركة الكثير من قيمتها، ويأتي ذلك ضمن سلسلة من الإجراءات تبررها الحكومة بمكافحة الاحتكار، وضمان أمن البيانات ومصادر التمويل.

وفي الوقت نفسه كثّف الحزب الشيوعي الصيني حملته على صناعة الترفيه، وشبّه الألعاب الإلكترونية عبر الإنترنت بالأفيون من ناحية تأثيرها على العقل، وهدّد بفرض عقوبات قاسية على المشاهير “المبتذلين” الذين ينشرون محتويات غير قانونية أو لا تنسجم مع البنية الأخلاقية في الصين، كما حظرت الحكومة عددا من برامج تلفزيون الواقع واستنكرت ميل الشباب المتنامي للعروض الترفيهية على الطريقة الغربية.

كما صدرت توجيهات بالاعتماد على المنتجات المحلية بدل المستوردة، ففرضت الحكومة قيودا على سيارة تسلا الكهربائية الأميركية ومنعت دخولها للكثير من الأماكن لأسباب أمنية، ربما لأن ذلك يصب في مصلحة تسويق سيارتي “نيو” و”جيلي” الصينيتين، وكذلك ضغطت للاستعاضة عن “ستاربكس” الأميركية بلوكين كافيه الصينية، واتّبعت نفس الأسلوب مع عدد من الشركات الأجنبية مما يهدد بغياب المنافسة الحقيقية وبالتالي انخفاض مواصفات المنتجات المحلية، كما قالت الحكومة الصينية إنها ستعمل على تعزيز الإشراف على الشركات ورأس المال الأجنبي.

وترافقت تلك الأحداث مع تخلّف عملاق العقارات الصيني “إيفرغراند” عن دفع سندات الفوائد المستحقة عليه للمستثمرين، وتمتلك هذه الشركة 1300 مشروع في الصين تشمل 1.4 مليون بناء توقف العمل في الكثير منها، يعمل فيها 200 ألف موظف، وتؤمّن بشكل غير مباشر 3.8 مليون وظيفة أخرى، فخسرت أسهم الشركة خلال العام الحالي 85 في المائة من قيمتها بعد أن تجاوزت ديونها 300 مليار دولار، والعالم ينتظر هذه الأيام قرار الحكومة الصينية إن كانت ستساعد هذه الشركة أم لا، وحدثت أمور مشابهة قبل عام مع عدد من الشركات المملوكة للدولة بما يشير إلى اعتماد الكثير من الشركات الصينية على الاستدانة لدعم النمو.

كما ترافق كل ذلك مع تغيير في توصيف النظام السياسي في الصين، فقد عاد التركيز على مفردات مثل الاشتراكية، حيث قال الرئيس الصيني شي جين بينغ في أحد خطاباته هذا العام أن الهدف بناء الصين لتصبح قوة اشتراكية حديثة، وأكد على التوزيع الأكثر عدالة للثروة والعمل على تقوية دور الحزب الشيوعي، كما ذكّر بمآثر ماو تسي تونغ مؤسس جمهورية الصين الشعبية التي تحوّلت تحت قيادته إلى قوة نووية عظمى يحسب العالم حسابها.

لكن عظمة هذه الدولة ترافقت في أيام ماو مع شعب يموت منه الملايين جوعا نتيجة سياسات مرتجلة وغير مدروسة، وأحد الأمثلة على هذه السياسات ما سمّي بالقفزة العظيمة إلى الأمام بين الأعوام 1958-1961 التي هدفت إلى إلغاء الملكية الفردية للأراضي الزراعية والتحوّل بشكل قسري للتصنيع الريفي، والتي انتهت إلى كارثة أدت لموت 30 مليون إنسان دون تحقيق أي زيادة في الإنتاج.

حتى وصل عام 1978 إلى قيادة الحزب الشيوعي الصيني “دينغ سياو بينغ” الذي تلقى تعليمه وتعرف على الماركسية في فرنسا، والذي عارض بشجاعة ثورة ماو الثقافية في ستينيات القرن الماضي وأعلن خلافه مع مقولة “من الأفضل أن نبقى فقراء في ظل الاشتراكية على أن نغتني في ظل الرأسمالية”، فتم إبعاده وقتها لمناطق نائية في الصين، ولذلك عندما وصل إلى قمّة السلطة ابتكر نظاما هجينا يقوم على الانفتاح اقتصاديا، والانتقال إلى اقتصاد السوق، وكذلك الانفتاح سياسيا على العالم الخارجي، لكن مع المحافظة على سلطة الحزب الشيوعي المطلقة داخليا.

وأدت سياسته هذه إلى أكبر عملية نمو اقتصادي في التاريخ عادت على الصين  بتريليونات الدولارات، وجعلت 4 ملايين صيني يملكون أكثر من مليون دولار، كما أوصلت عدد أفراد الطبقة الوسطى إلى 340 مليونا، وهذه الطبقة هي المحرك الرئيسي للاقتصاد لأنها سبب ارتفاع الطلب على السلع والخدمات عالية الجودة، كما أنها تزيد نشاط قطاع المصارف وتجذب الشركات الأجنبية للاستثمار في الصين.

ولكن، في المقابل، لهذه الطبقة متطلباتها، فهي مرتبطة بطريقة ما بالتعليم الجيد فمعظم المبتكرين يأتون من الطبقة الوسطى كما أن وجودها يتطلّب تحسين مستوى الحوكمة لأنها تطالب برفع مستوى الخدمات العامة من الصحة والتعليم والمواصلات والرفاه المعيشي، وعندما تقوى وتتوسع طبقة الأثرياء والطبقة الوسطى يصبح من الطبيعي مطالبتهما بدور سياسي يتناسب مع حجمهما الاقتصادي، وهذا يشكل خطرا على الأنظمة الشمولية، كما يهدد الأساس الأيديولوجي للحكم الشيوعي. 

ومعنى ذلك أن الصين اليوم أمام خيارين أحلاهما مرّ، إما الاستمرار في سياسة الانفتاح الاقتصادي مع ما تجلبه من ثروة إلى البلد رغم أن ذلك سيهدّد عاجلا أو آجلا النظام السياسي وحكم الحزب الشيوعي، أو العودة إلى سيطرة الدولة على عملية الإنتاج والتضحية بحالة الرخاء الاقتصادي التي تم تحقيقها عبر اقتصاد السوق، والعودة إلى الاقتصاد الموجّه الذي اختبره العالم واقتنع بفشله عندما انهارت الأنظمة الاشتراكية في نهايات القرن الماضي.

وكذلك على الصين الاختيار بين الاستمرار في سياسة الانفتاح على العالم سياسيا ومد جسور التواصل معه، أو مواجهته مع ما يترتب على ذلك من خسارة لجميع الأطراف، خصوصا بعد أن تراكمت أزمات الصين مع جميع الدول المجاورة لها التي لم تعد تحتمل سياستها التوسعية والاستفزازية.

وكذلك بعد تدهور علاقاتها مع الولايات المتحدة وكثير من دول الغرب التي ترى في الصين منافسا غير نزيه لا يحترم براءات الاختراع ويسرق الابتكارات الغربية ويستخدمها في منتجاته، مع أن الانفتاح على العالم سيؤدي إلى تغلغل الثقافة والمفاهيم الغربية في المجتمع الصيني، التي ستشكل تهديدا آخرا للنظام السياسي الشمولي الحاكم، وضمن هذه المعطيات تبدو أكثر الأمور إثارة للقلق أن يدفع تراكم الأزمات الداخلية الصين إلى مغامرات خارجية، لا يريدها أحد.

شاهد أيضاً

أوكرانيا

العربية- عبدالمنعم سعيد الشرق اليوم– فى العادة فإن الاستدلال عن سياسات إدارة جديدة يأتى من …