بقلم: عاطف الغمري – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – الجاسوسية ركن أساسي في عمل السياسة الخارجية للدول. وبعض المختصين بذلك يعرّفون الجاسوسية بأنها سرقة أسرار شعب آخر، من أجل إحباط خططه الموجهة ضدك، ومن أجل دعم مخططاتك ضده. وحين تفعل ذلك فأنت تقوم بإغراء مواطنين أجانب لخيانة أوطانهم، إما بالرشوة، أو التهديد، أو الابتزاز، أو الإغراءات الجنسية. وأحياناً ما يدعو كبرياء بعض السياسيين إلى الاعتقاد بأن المعلومات التى تصل إليهم من جواسيسهم تحيطهم علماً بأشياء لا يعلمها غيرهم. وعندئذ يشعر الناس العاديون بالسعادة لتجسس حكومتهم على أجانب، لكنهم لا يرتاحون حين تتجسس حكومتهم عليهم.
والقوى الكبرى جميعها بما فيها أمريكا وروسيا وبريطانيا وغيرها، لديها وكالات مخابرات ضمن نشاطها للإطاحة بحكومات أجنبية، والتأثير على الانتخابات في بلادها، ونشر دعايات مضللة بين شعوبها. وللمخابرات المركزية تاريخ طويل في العمليات السرية، وقد يتطلب الأمر في عالم الجواسيس اللجوء أحياناً إلى الجريمة، أو القتل، حتى لا يفتضح أمر العملاء، ولإبقائهم تحت غطاء السرية.
المؤرخ ديفيد أوماند من جامعة أوكسفورد قدم للمكتبة كتابين أحدهما عنوانه «كيف يفكر الجواسيس»، والثاني بمشاركة البروفيسور مارك بايثيان بنفس الجامعة، بعنوان «مبادئ الجاسوسية.. القواعد السرية المخابراتية».
أوماند يتناول في كتابيه مشكلة رئيسية أخرى هي كيف تتأكد من أن المعلومات التي جمعها لك جواسيسك، هي معلومات دقيقة، وأنها حدثت في نفس التوقيت الذي ذكروه، فالجواسيس، وقادتهم، هم بشر مثلنا، ويحدث أن يرتكبوا أخطاء بسبب التشوش والارتباك في تحليل المعلومات التي وصلت إليهم. ويمكن أن يؤدي فشلهم إلى كارثة. فمثلًا كان الهجوم على بيرل هاربوز، وهجوم هتلر المفاجئ على روسيا، والفوضى التي صاحبت الهجوم على العراق، نماذج لها صداها الهائل عن فشل العميل في الوصول إلى المعلومات الصحيحة، حتى أن ستالين أطلق الرصاص على جواسيسه عندما وجد أن معلوماتهم مليئة بالأخطاء.
وفي عصرنا الحديث اقتنع توني بلير رئيس وزراء بريطانيا بأن مخابراته أكدت بما لا يدع مجالاً للشك، أن صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل. وهو ما ثبت خطؤه.
وكانت مجموعة متميزة في الأمن البريطاني عرفت باسم MI5، أي المخابرات الداخلية، قد سعت في سبعينات القرن العشرين إلى إقناع نفسها بأن رئيس الوزراء هارولد ويلسون، عميل سوفييتي، وهو ما ثبت عدم صحته تماماً.
ويحذر أوماند من أن معلوماتنا وفهمنا للعالم يمكن أن يكون مشتتاً وأحياناً خاطئاً. فالحقائق ليست دائماً بالبساطة التى تبدو لنا لأول وهلة. فهي تحتاج إلى استكمالها بالتفسير والإيضاح.
ونحن أيضاً قد نكون ضحايا للتضليل نتيجة وجود أفكار مسبقة ومستقرة في عقولنا، تأثراً بنظرية المؤامرة. ومن ناحيته يعتقد ريموند كارتوف المحلل المرموق بالمخابرات البريطانية، بعدم إمكانية تأكيد صحة وجهة نظر واحدة.. كما أن مسؤولاً أمريكياً كان قد عمل طويلاً خبيراً في تشخيص عمليات التجسس بعد انتهاء الحرب الباردة، قد حذر من أن اقتصار النظر من زاوية إيديولوجية للعالم، في إطار الصراع الأمريكي – السوفييتي، قد أدى إلى أن تكون صناعة المعلومة المضادة مضللة، إلى الحد الذي سبب تشوشاً في تفكير المسؤولين في واشنطن ولندن، إذا ما كانت هذه المعلومة المصطنعة قادمة من موسكو.
وفي النصف الأول من الثمانينات، وكانت الحرب الباردة في ذروتها، لجأ الرئيس رونالد ريجان إلى تصعيد هجومه على السوفييت. وفي هذا المناخ شديد التوتر، توفي ثلاثة من القادة السوفييت الكبار، واحد وراء الآخر. يومها سيطر على تفكير قادة الغرب سؤال هو: من هو الرئيس السوفييتي القادم؟
بالطبع لم يكن أحد يعلم. لكن بريطانيا كانت قد جندت ضابطاً سوفييتياً كعميل لها. وهو لم يكن قريباً من القادة الكبار، لكنه كان دقيق الملاحظة، متابعاً لأقل التفاصيل لما يجري داخل الاتحاد السوفييتي، بما في ذلك – ما هو ظاهر للعيان، وما هو مستتر. وبسرعة قام هذا العميل بإرسال اسم ميخائيل جورباتشوف على أنه المرشح لرئاسة الاتحاد السوفييتي، وهو ما ثبت صحته.
مازالت صفحات حروب الجواسيس ملأى بروايات عن قدرة أجهزة المخابرات في بعض الدول، على إحباط مؤامرات تجسسية ضدها، بعد أن اكتشفت وجود أشخاص يمارسون داخلها نشاطات لا تثير الانتباه، منها نشاطات تجارية، وقد أخفوا جنسياتهم الحقيقية، وغيروا أسماءهم، وقد أدى اكتشافهم إلى حماية أمن هذه الدول وسلامة شعوبها.