الرئيسية / مقالات رأي / ليس من ديمقراطية في العراق.. إنها فقط “انتخاباتية”

ليس من ديمقراطية في العراق.. إنها فقط “انتخاباتية”

بقلم: رستم محمود – موقع الحرة

الشرق اليوم- في العراق اليوم، ثمة مشهد شديد التراجيدية: سخط عال الوتيرة من الأغلبية المُطلقة لقرابة 40 مليون عراقي، تتدهور أحوالهم الحياتية يوماً بعد آخر، وفي كُل تفصيل منها، بشكل متقادم ودائم ودون أن يكون لها من قاع، حتى إن بعض المناطق صارت غير قابلة للحياة، وأخرى في طريقها لذلك.

بالمقابل، تدور رُحى معركة انتخابية طاحنة، تخوضها مئات القوى والتيارات السياسية، لتفوز بمقاعد البرلمان وتشكل السُلطة العُليا في البلاد. التي من المُفترض أن تكون مسؤولة عن كما يمس حياة المواطنين العراقيين هؤلاء، وتحسينها نحو الأفضل، لكن العكس تماماً هو الصحيح، فمجموع الساخطين هؤلاء، متأكدون تماماً من أن هذه النُخبة والقوى والتنظيمات التي ستصعد وتنفرز عن هذه الانتخابات “الحُرة”، إنما هي السبب الجوهري لفظاعة أحوالهم هذه.

في بلد طبيعي، من المُفترض أن تكون الديناميكية الانتخابية هذه، مسؤولة وكفيلة وبشكل غريزي وبديهي، عن حل كُل تفصيل من تدهور الأحوال الناس، كما أثبتت كامل التجارب الديمقراطية في التاريخ السياسي الحديث، وفي مُختلف مناطق العالم. فالشرط الديمقراطي الذي يتيح لقواعد أمة المواطنين انتخاب وتصعيد ممثليهم إلى رأس السُلطتين التشريعية والتنفيذية في البلاد، إنما يخلق ظرفاً مؤاتياً تماماً للتغلب على مختلف منغصات الحياة العامة والفردية لمجموع الناخبين، لأن الناس/الناخبين قد اختاروهم وانتخبوهم لمجموع المؤهل والثقة التي يتمتعون بها بنظر هؤلاء الناخبين.

لكن ذلك لا يحدث في العراق، وليس ثمة من أي أمل أن يحدث، ويعرف الجميع أنه لن يحدث، شيء يشبه قصة موت مُعلن.

فلا هذه الانتخابات، ولا ما سبقها كلها، استطاعت أو ستستطيع أن تُصعد شخصيات وقوى سياسية قادرة وذات مصداقية للتعامل والاستجابة مع منغصات الحياة اليومية للعراقيين هؤلاء. بل على العكس تماماً، كان هؤلاء المُنتخبون، وسيكونون، مصدراً جوهرياً لهذه المُعاناة، وهذا بالضبط جذر هذا الحالة التراجيدية العراقية.

ما يجري في العراق منذ سنوات مُجرد انتخابات مُنتظمة فحسب، دون أن تُنتج أي من مفرزات الحياة الديمقراطية الطبيعية، من حلٍ لمعضلات الحياة وخلف رفاه اقتصادي وسلام اجتماعي وتمتين لأدوار المؤسسات وفصل للسلطات.

ففي العمق ثمة ما يشبه الالتزام بهذه الانتخابات كنوع من التمرين على إعادة الحياة والشرعية لنفس السُلطة والنُخبة الحاكمة، ومعها خلق شرعية تُجنب الأقوياء في مراكز القرار وسادة المناطق وزعماء الجماعات صراع عنيفاً، وإلى جانبها توازع المغانم الرمزية والمادية فيما بينهم، وفقط كذلك. فالعملية الانتخابية أشبه ما تكون بآلية كبرى لمحاصصة السُلطة وثرواتها بين مجموعة من الحاكمين، بعدما كانوا في زمن سابق حاكماً واحداً فحسب.

حدث ذلك في العراق لأسباب مفصلية، على رأسها هوية اللحظة التأسيسية لـ “الديمقراطية العراقية”، التي بدأت عقب الغزو الأميركية عام 2003.

ففقط لرغبة أميركية تنزع للتعبير عن نهاية حُقبة حُكم حزب البعث الشمولية والواحدية، نُفذت الانتخابات الأولى بأي شكل كان، بالذات من حيث خلوها من كامل منظومة القيم الديمقراطية. من المساواة بين الجنسين مروراً بعدم احترام حرية الرأي والتظاهر، وليس انتهاء بعدم الاعتبار لقداسة حقوق الإنسان وفصل السلطات وتكامل المؤسسات.

ساهم ذلك التأسيس “المشوه” لأن تتحول الانتخابات إلى صورة وتعبير وحيد عن “الديمقراطية” في العراق، أو أن تسمح تلك العمليات الانتخابية للنُخب السياسية العراقية لأن تستغني عن كامل باقي طيف أسس الديمقراطية الطبيعة.

استفادت نفس النُخب السياسية العراقية من نمط الاقتصاد الريعي النفطي العراقي. فوصولها لسُدة الحُكم وفر لها موارد مالية هائلة، سهلة ومُتدفقة بغزارة. الأمر الذي ساعدها لأن تشتري ذمم آلاف الناشطين والفاعلين في الحياة العامة، من الذي تواطؤوا وارتضوا وتوافقوا مع تلك النُخبة السياسية على أن تكون “الديمقراطية” فقط هذه الانتخابات، دون الالتفات إلى أي تفصيل آخر.

لم تفرز النُخب العراقية أي منتوجات فكرية وسياسية وخطابية معارضة لهذا الاختصار المريع للديمقراطية إلى كونها فقط “انتخابات”. فصحن السُلطة ومغانمها الدسمة، خلق “خيانة” ما بحق القيم الديمقراطية، فتوهمت هذه النُخب وأوهمت القواعد الاجتماعية بأنه يُمكن لديمقراطية ما أن تُشيد دون نقابات مهنية مثلاً!، أو حتى دون صحيفة ووسيلة إعلامية واحدة ذات مضمون ومعنى!، أو أن يكون ثمة أمل بحدوث ديمقراطية ما في دولة تعمل المحكمة الدستورية العُليا فيها كمنصة للمحاصصة بين القوى السياسية النافذة!، أو دولة تنتعش فيها الديمقراطية، بينما الفصائل المسلحة أكثر سطوة من الجيش النظامي…!

لكن ذلك ما كان له أن يتكرس ويستمر لولا التشوه البنيوي في السلوك والخيارات السياسية للنخاب العراقي طوال قرابة عقدين ماضيين.

فالأوجاع والدماء التي ورثها العراقيون من الماضي القريب، وتدخلات الدول الإقليمية وصراعاتها داخل العراق، فسحت المجال واسعاً لأن ينتخب العراقيون دوماً وأن يصعدوا قادة أقوامهم، طوائفهم وأعراقهم وحساسياتهم، لا سياسيين عموميين يستطيعون إيجاد حلول لسوء أحوالهم. فالمنتخبون العراقيون إلى مؤسسات السُلطة في العراق كانوا دوماً شعراء القبائل، الذين كانوا يملكون مصلحة جوهرية وتوافقية لزيادة الشروخ الأهلية تلك، لأن تلك الشروخ هي فقط من أوصلتهم إلى “سدرة المنتهى”، وليس أية كفاءة أخرى يملكونها ويتميزون بها.

ويُمكن إضافة أدوات وتفسيرات ومداخل لا تنتهي لهذا الوضع العراقي. إذ كيف مثلاً يُمكن أن يكون ثمة ديمقراطية ما في دولة ومُجتمع لا يُنتج شيئاً، أي شيء، يستورد كُل شيء، بما في ذلك طاقته الكهربائية وحاجاته من الخضراوات! أوليست الديمقراطية ربيبة تنظيم العمل!، أوليست السياسية اقتصاداً مكثفاً، حسب تعبير أثير للعم ماركس.

كذلك كيف يُمكن للديمقراطية وقيمها أن تجد مكانة ودوراً ومعنى، في مُجتمع مرتبط بأغلبيته المُطلقة بالمؤسسة الدينية ورجالاتها وحكاياتهم ومنطقهم وحضورهم الرمزي، مجتمع بأغلبيته ذو ولاء والتزام وتقديس لأدوار هؤلاء ورؤيتهم ورأيهم في كُل تفصيل من الحياة، بما في ذلك حياة الناس الخاصة.

في العراق اليوم، لا يُمكن لوم المؤسسات والقوى والشخصيات السياسية والبُنى الهيكلية لنظام الحُكم فحسب، فهي وإن كانت صاحبة المسؤولية الأكبر، إلا أنها ليست الوحيدة قط، فلعبة الحياة كاملة في هذا البلد، من عدم الاتفاق على نشيد وطني طوال عشرين عاماً، وصولاً إلى حكايات الجيران الذين انقضوا على جيرانهم وأوغلوا في كرامتهم أثناء الغزوة الداعشية، إلى ملايين الكارهين لفكرة العمل، تقول إن الديمقراطية لا يُمكن تحقيقها لمُجرد الرغبة أو لقرار أعلى، وأن الانتخابات ربما تكون أشياء كثيرة أخرى، قبل أن تكون “الديمقراطية”.

شاهد أيضاً

أمريكا والمسكوت عنه!

العربية- عبدالمنعم سعيد الشرق اليوم– الدولة تتكون من شعب وسلطة وإقليم؛ ويكون الشعب فى أعلى …