BY: ANDRÉS VELASCO, ADNAN KHAN
الشرق اليوم- في أعقاب كارثة أفغانستان، يزعم البعض أنه كان من الممكن أن تنجح القوات الغربية لو أنها خرجت من قبوها وانخرطت أكثر مع الجماعات المحلية. ويقول آخرون أنه في ظل غياب العادات المدنية وثقافة التعاون التي تتطلبها دولة تؤدي وظائفها، فإن كل الجهود المبذولة لبناء دولة في أماكن مثل أفغانستان مصيرها الفشل. وكلا الموقفين مضللين، إن لم نقل مغلوطين.
وتقول الحجة (أ) التي تعارض المشككين أن دولا قد بُنيت، ليس فقط في مجتمعات متجانسة مثل اليابان أو الدول الاسكندنافية. إذ أقامت الهند ديمقراطية نابضة بالحياة على الرغم مما تعانيه من تقسيم، وحجمها الذي يساوي حجم قارة، ولغاتها وأعراقها العديدة. وتتمتع البرازيل بهوية وطنية قوية ومؤسسات ديمقراطية تؤدي وظائفها على الرغم من التفاوت الحاد في الدخل، والانقسامات الإقليمية والعرقية العميقة. واستعادت الولايات المتحدة عافيتها بعد حرب أهلية أسفرت عن مقتل أمريكي واحد في كل 40 شخص.
ولكن هذه الأمثلة الثلاثة تمثل أيضًا الحجة أ التي تعارض إلى حد المبالغة المتفائلين: عملية بناء أمة ليست مهمة الأجانب. وقد يكون من الصعب الاستشهاد بمثال تاريخي لدولة قومية تؤدي وظائفها وتتمتع بالتماسك بُنيت عن طريق قوة السلاح. إذ لم يكن (ألمهاتما غاندي)، و(أبراهام لنكولن)، والديمقراطيون البرازيليون مثل (فرناندو هنريك كاردوسو) من السكان المحليين فحسب؛ بل خلقوا أيضا الرموز والممارسات المحلية للقيم المشتركة.
ويمكن أن يساعدنا تطور التعاون البشري على فهم عملية بناء الدولة الناجحة. فالتطور قدم للبشر بعض أشكال التعاون. فالصياد الذي لم يتعاون عن كثب مع زملائه الصيادين كان معرضا لخطر الموت تحت أقدام ماموث صوفي. لكننا لا نجيد التعاون مع الجميع. إذ يكون التضامن مع زملائنا في فريق الصيد مصحوبا بالعداء تجاه الآخرين الذين قد يرغبون في اصطياد “فريستنا”.
ويتلخص بناء الأمة في “توسيع دائرة” الاهتمام الأخلاقي (عبارة الفيلسوف بيتر سينغر). إذ تشترك الدول القومية الناجحة- كبيرة كانت أم صغيرة، غنية كانت أم فقيرة- في شيء واحد مشترك: إحساس المواطنين بماضي ومستقبل مشتركين. فبغض النظر عن مدى اختلافنا، بعض مخاوفك هي أيضًا مخاوفي.
إن مصدر الانقسام على أساس مبدأ نحن ضد الآخرين هو حدسنا، أو ما يسميه الفلاسفة “الاستدلال”: وهي قواعد اتخاذ القرار التي تطورت حتى نتمكن في لحظة من تحديد ما إذا كان الشخص الذي يقف وراء الشجرة صديقًا أم عدوًا. ونتجت هذه الأفكار عن تجربتنا الخاصة، ومما علمنا إياه آباؤنا، ومن إرشادات الأقارب والجيران، الذين اكتسبوا، هم أيضًا، حدسهم عن طريق المزج بين التجربة والتقليد.
وإذا كان حدسنا يأتي من التجربة والتعلم يمكنها أن تتطور. إذ في بعض الأحيان، تتطور الثقافات والمعتقدات الراسخة ببطء شديد. وافترض عالم السياسة بجامعة هارفارد، روبرت بوتنام، في عام 1993 بأن ارتفاع مستويات “رأس المال الاجتماعي”- بما في ذلك الثقة بالآخرين، والاستعداد للانضمام إلى الجمعيات الخيرية والمنظمات التطوعية- في شمال إيطاليا الأكثر ثراءً وتطورًا مقارنة بجنوب إيطاليا، تعكس تجارب سياسية متناقضة في الفترة 1000-1300، عندما أصبحت بعض الدول المدن في إيطاليا مستقلة. وخلُصت دراسة أجريت لاحقا وقارنت بين 400 مدينة إيطالية إلى وجود علاقة إحصائية قوية وإيجابية بين مقاييس رأس المال الاجتماعي اليوم وحالة المدن- سواء كانت حرة أم لا- خلال فترة العصور الوسطى.
وهذا لا يعني أنه يتعين علينا بالضرورة الانتظار آلاف السنين حتى يتطور حدسنا الأخلاقي والثقافي. فالثقافة يمكن أن تتغير بسرعة. خذ على سبيل المثال المعتقدات المتعلقة بالعدالة. لقد كبر بعض الناس على سماع عبارة “العمل الجاد يؤتي ثماره”، وصدقوا ذلك؛ ويعتقد البعض الآخر أن النجاح يرجع إلى الحظ أو العلاقات الجيدة. فهل نحن متمسكون بمثل هذه المعتقدات مهما حصل؟ على ما يبدو لا. إن العيش في فترة الركود يحدث فرقًا كبيرًا: فقدان العديد من الأشخاص الذين يعملون بجد لوظائفهم يجعل المرء يميل أكثر للاعتقاد بأن النتائج تعتمد على الحظ وليس على الاجتهاد في العمل.
أو خذ على سبيل المثال تأثير العيش في ظل الشيوعية. إن الأشخاص الذين نشأوا في ألمانيا الشرقية ينظرون إلى تدخل الدولة بإيجابية أكبر من أولئك الذين عاشوا في ألمانيا الغربية، لكن هذا التأثير بدأ يتلاشى منذ إعادة التوحيد. وحسب تقديرات ألبرتو أليسينا، ونيكولا فوكس شوندلن، سيستغرق الأمر جيلًا أو جيلين- وليس قرونًا أو آلاف السنين- حتى تتقارب المواقف تمامًا.
والأهم من ذلك، أن التطور الأخلاقي والسياسي لا يحدث فقط عن طريق الصدفة، ولكن أيضًا عن طريق التخطيط. فالقيادة والسياسة أمران مهمان. إذ بعد استقلال كينيا، عزز الزعيم الكيني، جومو كينياتا، سلطته عن طريق التلاعب بالانقسامات القبلية. وبالمقابل، في تنزانيا المجاورة، شدد خوليوس نيريري على هوية وطنية تنزانية واحدة، واستخدام لغة واحدة. ورغم أنه بعد الاستقلال وزعت تنزانيا الاستثمار العام على التعليم، والصحة، وبناء الطرق بالتساوي في المناطق والجماعات، إلا أن النظام الكيني فضل بشدة مناطق (كيكويو) التي شكلت جوهر الدعم السياسي لكينياتا. وكان هذا النمط سمة متكررة للسياسة الكينية، ويشار إليها عادة باسم “جاء دورنا لتناول الطعام”. وليست الهوية القبلية للحكام، بل المؤسسات التي يعملون في ظلها، هي التي تفسر هذا النمط
وخلُص تيد ميغيل من جامعة كاليفورنيا، بيركلي، أن هذه الأساليب المتناقضة أثرت على القيم والنتائج في كينيا وتنزانيا. وتمكنت المجتمعات ذات التنوع الإثني من إدارة نفسها بصورة أفضل- من خلال جمع المزيد من الأموال لبناء للمدارس أو آبار المياه- في تنزانيا أكثر من كينيا. ولفترات طويلة من الزمن، “كانت معدلات النمو الاقتصادي في تنزانيا أيضًا أسرع بكثير من نظيرتها في كينيا … وكانت تدابير الحوكمة والجودة المؤسسية تتحسن باستمرار، بالإضافة إلى تراجع العنف في السياسات الوطنية.”
ويعتمد الشعور بالانتماء القومي على الرموز والطقوس المشتركة بقدر ما يعتمد على السياسات. ويمكن للقادة إعادة ضبط توقعات المواطنين وبناء الثقة. لقد تخلى غاندي عن بدلة المحامات، وارتدى زيًا أبيضا، وقاد لمسافة 240 ميلاً (386 كيلومترًا) مسيرة إلى البحر لصنع الملح. وارتدى (نيلسون مانديلا) قميص فريق (سبرينغبوكس)، فريق الرغبي الوطني لجنوب أفريقيا، الذي كان ينتمي جميع عناصره إلى العرق الأبيض، وهتف 65000 مشجع بعبارة “نيلسون! نيلسون! نيلسون!”. وهكذا كانت جنوب افريقيا: أمة ديمقراطية جديدة متحدة تحت راية المساواة والاحترام المتبادل.
لذا، فإن المتشككين مخطئون: لقد بُنيت الأمم عمداً في الماضي، وستُ
بنى بنفس الطريقة مرة أخرى. ولكن المهمة أكثر دقة وصعوبة واستهلاكًا للوقت مما خمن له المتفائلون الساذجون في الخارج. وسيدفع رجال أفغانستان- ولا سيما النساء- الثمن الآن. وأتمنى أن تكون لديهم النسخة الأفغانية لمانديلا أو غاندي عاجلاً وليس آجلاً.