BY: MARK LEONARD
الشرق اليوم- في السنوات القليلة الأخيرة، أبرزت القصة الجيوسياسية صحوة تدريجية من جانب الديمقراطيات الغربية على الحقائق المتصلة بالصين المتزايدة الطموح والاستبداد. لقد انتقلت الدول الأوروبية من التنافس فيما بينها على مرتبة الصديقة الأفضل للصين إلى تقاسم وجهة نظر مفادها أن الصين تمثل تحديا عميقا ومتعدد الأوجه.
على سبيل المثال، في ما يتعلق بالقضايا العالمية مثل تغير المناخ، يتعين على الحكومات الأوروبية الآن أن تعمل على إيجاد طريقة للعمل بفعالية مع شريك صعب. وفي ما يتصل بالقضايا الاقتصادية والتكنولوجية مثل الذكاء الاصطناعي، برزت الصين كمنافس شرس. وعندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان، والديمقراطية، ودور الدولة في الاقتصاد، يُـنـظَـر إلى الصين الآن على أنها “خصم جهازي”.
بالإضافة إلى تبني موقف أكثر واقعية في التعامل مع الصين، أصبح الأوروبيون أيضا أكثر انخراطا مع آسيا. قادت فرنسا المجموعة في عام 2016 بالتوقيع على صفقة تقضي بتزويد أستراليا بغواصات باراكودا التي تعمل بالديزل، وإلهام بقية أوروبا لتطوير استراتيجية جديدة لمنطقة الهادي الهندي. وكان موقفها تجاه الصين في السنوات الأخيرة بعيدا كل البعد عن موقف رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، والرئيس الفرنسي جاك شيراك، والمستشار الألماني جيرهارد شرودر، الذين أيدوا إنهاء حظر الاتحاد الأوروبي على مبيعات الأسلحة إلى الصين ومنحها “وضع اقتصاد السوق”.
لكن الآن دُفِـعَ بفرنسا جانبا من قِـبَـل أوكوس (AUKUS)، تحالف أمني وتكنولوجي جديد بين الولايات المتحدة، وأستراليا، والمملكة المتحدة. في واشنطن ولندن، يجري تصوير هذه الصفقة لتزويد أستراليا بغواصات نووية أمريكية الـصُـنع على أنها واحدة من أكثر التطورات الاستراتيجية أهمية منذ عقود من الزمن، حتى برغم أنها أثارت غضب فرنسا.
من منظور الولايات المتحدة، يأتي تحالف أوكوس في أعقاب انسحابها الفوضوي من أفغانستان مباشرة، وهو بالتالي يُـعَـد دليلا على أن إدارة بايدن جادة، ومقتدرة، وصارمة في أمور السياسة الخارجية. إن تزويد أستراليا بأسطول من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية من شأنه أن يزيد من قدرة أمريكا على استعراض قوتها في منطقة الهادي الهندي ــ ومن هنا يأتي استياء الصين إزاء هذا التحالف.
يُـعَـد تحالف أوكوس أيضا التعبير الأول والوحيد (حتى الآن) عن “بريطانيا العالمية”، القوة العالمية الممكنة حديثا والتي كان من المفترض أن تنشأ بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ويُـرَوَّج لهذه الصفقة على أنها دليل على أن “العلاقة الخاصة” بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة قوية. وحتى فرنسا من الممكن أن تستفيد من الترتيب الجديد. فمن خلال الإشارة إلى مثال آخر على الهشاشة الأمريكية، يصبح بوسع فرنسا أن تعزز حجتها لصالح السعي وراء الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي.
منذ ظهرت الأنباء حول الصفقة، بدأت المحاولات لخفض حدة التوترات بين القوى الغربية. فقد اتصل الرئيس الأمريكي جو بايدين بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، واعترف بأن “الموقف كان ليستفيد من المشاورات المفتوحة بين الحلفاء”، ووعد بزيادة الدعم الأمريكي لحملة فرنسا في مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل.
الآن بعد أن نَـفَّسَ الفرنسيون عن أنفسهم بعض الغضب (من خلال استدعاء سفيريهم إلى الولايات المتحدة وأستراليا مؤقتا)، يبدو أن العديد من مراقبي السياسة الخارجية الأمريكية يتصورون أن العودة إلى العمل كالمعتاد ستأتي لاحقا. ولكن على الرغم من أي تقدم تكتيكي ربما حققته الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، فإن المكاسب الاستراتيجية التي قد تعود عليها من أوكوس مشكوك فيها في أفضل تقدير.
صحيح أن منطقة الهادي الهندي تُـعَـد ذات أهمية مركزية لدعم قدرة أمريكا على منافسة الصين، وأن أستراليا المجهزة بشكل جيد قادرة على تعزيز السيطرة البحرية الأمريكية على ذلك المسرح. لكن هناك ساحات قتال أخرى أكثر أهمية يجب أن توضع في الاعتبار. فكما رأينا، يرتبط تحدي الصين أيضا بتنظيم الذكاء الاصطناعي، والتمويل العالمي، والتكنولوجيات والبنى الأساسية الخضراء. وفي ما يتعلق بهذه القضايا، يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يساهم بشكل أكبر كثيرا مقارنة بما يمكن أن تقدمه أستراليا أو المملكة المتحدة.
من مصلحة أمريكا في الأمد البعيد أن يصبح الاتحاد الأوروبي قوة ذات سيادة أكبر وأكثر قدرة على المشاركة في الدفاع عن القيم والمصالح الغربية المشتركة. وبإهانة فرنسا، البلد العضو الوحيد في الاتحاد الأوروبي الذي تبنى صراحة تعميق المشاركة في منطقة الهادي الهندي، جعلت إدارة بايدن هذه النتيجة أقل ترجيحا.
ولم تكن المملكة المتحدة أقل قِـصَـر نظر. فهي بعد انسحابها من الاتحاد الأوروبي، تناضل من أجل تنمية العلاقات مع دول أخرى لديها معها قواسم مشتركة أقل من تلك مع جيرانها الأوروبيين المباشرين. حتى أكثر أنصار خروج بريطانيا التزاما سيجدون صعوبة في الزعم بأن أستراليا أكثر أهمية للمصالح العسكرية والتجارية البريطانية من فرنسا أو أي دولة أخرى في قارة أوروبا. فليست أستراليا هي القادرة على مساعدة المملكة المتحدة من خلال توفير سائقي شاحنات الطوارئ أو منع تدفق المهاجرين عبر القناة الإنجليزية.
لكن الفرنسيين ليسوا أبرياء تماما. الواقع أن معظم أعضاء الاتحاد الأوروبي الآخرين ينظرون إلى أجندة السياسة الخارجية الفرنسية على أنها معادية لأمريكا في نهاية المطاف، وعلى هذا فإن أفضل طريقة لاستمالتهم تتلخص في إقناعهم بخلاف ذلك. وبالتالي فإن تقليص اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة يجب أن يصاغ في إطار مشروع مؤيد لأمريكا ومن شأنه أن يساعد أوروبا والولايات المتحدة في مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. من خلال التعجيل بخلاف كبير عبر الأطلسي وتأكد شكوك أنصار الأطلسي في الاتحاد الأوروبي في أنها تُـكِـن سخطا معاديا لأميركا، قوضت فرنسا أهدافها.
لا تزال الفرصة سانحة لإعادة تنظيم الاستراتيجيات العديدة المختلفة التي تلاحقها القوى الغربية. ربما تصدرت فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة عناوين الأخبار الرئيسية بتحركات تبدو بارعة تكتيكيا ومُـرضية عاطفيا. لكن قد يتبين أن الصين هي المنتصر على الصعيد الاستراتيجي. بدلا من الاقتتال حول الغواصات، ينبغي للديمقراطيات الغربية أن تستكشف كيف يمكن أن تكمل استراتيجياتها في منطقة الهادي الهندي بعضها بعضا على جبهات بالغة الأهمية مثل الاقتصاد الرقمي، والتجارة، وتغير المناخ. وقد يوفر تحقيق هذا النوع من المواءمة الأساس لجلب شركاء رئيسيين آخرين مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، والهند.
تعترف استجابة الصين لتحالف أوكوس بهذا ضمنا. فقد تقدمت الصين بطلب للانضمام إلى عضوية الاتفاقية الشاملة التقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ، وهي صفقة كبرى روجت لها في الأصل إدارة أوباما لاحتواء صعود الصين اقتصاديا. وخلال العقد الذي أعقب التفاوض عليها، فقدت الولايات المتحدة اهتمامها بالصفقات التجارية، وكانت الصين تستغل تقهقرها على المسرح العالمي. الواقع أن تحرك الصين الهازئ لاحتلال مكان أمريكا في الاتفاقية الشاملة التقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ يُـظـهِـر نوعا من البرجماتية القاسية التي قد تجعل الأساليب الغربية ــ بما في ذلك تحالف أوكوس ــ تبدو بليدة خرقاء.