بقلم: عاصم عبدالخالق – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- المتحمسون للعلاقات التاريخية بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوربيين، يعتبرون هذا الارتباط مثل الزواج الكاثوليكي لا طلاق فيه؛ أي صلة أبدية حتى لو عكرت صفوها خلافات عابرة بين حين وآخر. من هذا المنظور يرون الأزمة الأخيرة بين فرنسا وأمريكا، بشأن صفقة الغواصات الأمريكية لأستراليا، مجرد زوبعة عابرة لن تلبث أن تتبدد بعد أن تهدأ ثورة الغضب الفرنسي وقد بدأت تخمد بالفعل على الأقل في ما هو ظاهر.
اعتاد الحليفان تسوية خلافتهما، ولن تكون الأزمة الأخيرة استثناء، فقد سبقتها أزمات أخرى نجح الجانبان في تجاوزها، غير أن بعض الخلافات تكون مثل الجرح العميق يمكن أن يلتئم لكن أثره يظل باقياً. سيتجاوز الطرفان المشكلة لكنها ستخلف شرخاً جديداً في جدار التحالف، وستعمق أزمة الثقة على جانبي الأطلسي.
النتيجة الأولى المباشرة لها أنها جددت على غير توقع، المناقشات التي كانت قد توقفت بعد رحيل الرئيس السابق دونالد ترامب، حول ما يسمى بالاستقلال الأوروبي الاستراتيجي؛ أي عدم الاعتماد على المظلة الدفاعية الأمريكية، بحيث تكون للقارة البيضاء قدراتها الدفاعية المستقلة عن حلف “الناتو”.
سنعود لهذه النقطة، لكن نشير أولاً إلى أن أزمة الغواصات لم تكن الأولى بين الجانبين بعد انتخاب الرئيس جو بايدن، سبقتها الأزمة الأهم والأخطر وهي الانسحاب الأمريكي المفاجئ وغير المنظم من أفغانستان. أزمة الغواصات يمكن أن تكون فرنسية أمريكية، أكثر منها أوروبية أمريكية، حتى لو حاولت باريس تجييش أوروبا خلفها، لكن أزمة الانسحاب من أفغانستان وعلى النحو الذي تم به أزعجت أوروبا كلها. لم يكن السبب هو الانسحاب في حد ذاته، لكن غياب التنسيق وتجاهل أمريكا لأعضاء الحلف، حيث انتشر في أفغانستان جنود من 36 دولة عضواً، ثلاثة أرباعهم من غير الأمريكيين.
يعتبر الأوروبيون أن التصرف الأمريكي أنهى شهر العسل مع بايدن، بعد أن أشاع انتخابه التفاؤل في أوروبا كلها، والتي عانت سياسات ترامب الانعزالية وتطرفه في تطبيق شعاره أمريكا أولاً.
جدد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان دون تشاور، الإحساس بأن واشنطن يمكن أن تتخلى عن حلفائها والتزاماتها تجاههم في أي وقت، وهي نفس الرسالة التي وصلت إليهم بعد صفقة الغواصات التي تمت في تكتم ودون إبلاغ باريس مسبقاً، وهو ما عمق لديها الإحساس بالمهانة، أو كما وصف وزير خارجيتها التصرف بأنه “طعنة في الظهر”.
كان لشعار “أمريكا تعود” الذي رفعه بايدن فعل السحر في نفوس الحلفاء الأوروبيين، ووصلت شعبيته بين الرأي العام إلى ذرى لم يبلغها إلا قليلون. وأظهر استطلاع لمركز “بيو” العام الماضي أن نسبة الأوربيين الذين يعتقدون أن الرئيس الأمريكي يتصرف على نحو سليم في الشأن الدولي، قفزت من 10% خلال حكم ترامب إلى 79% في ظل رئاسة بايدن.
يفسر هذا التأييد الجارف للرئيس الأمريكي على المستويين الشعبي والرسمي، حالة الإحباط الشديدة التي يشعر بها الأوربيون حالياً تجاهه. ذلك أن التوقعات كانت عالية؛ بل غير واقعية، كما يصفها كارل بيلدت رئيس الوزراء السويدي السابق الذي يعتبر أن الأوربيين أساؤوا ترجمة شعاره “عودة أمريكا”، فقد فهموا أنه يقصد عودة العصر الذهبي للعلاقات وهو ما لم يحدث، ومن السابق لأوانه توقع حدوثه.
على الرغم من هذه الصدمة الأوروبية، وأزمة الثقة التي فجرها الانسحاب من أفغانستان ثم صفقة الغواصات، فإن الحديث عن استقلال أوروبي استراتيجي هو أيضاً غير واقعي وسابق لأوانه. لا تملك أوروبا القدرات المالية ولا الإمكانيات العسكرية التي تؤهلها للاستقلال دفاعياً وأمنياً عن الشقيق الأمريكي الأكبر. ويصف تقرير لمركز العلاقات الخارجية الأمريكي دعوات الاستقلال عن المظلة الدفاعية الأمريكية بأنها مجرد مناقشات في إطار نظري فقط، وليست لها أسانيد عملية وحسابات قابلة للتطبيق. الاستقلال في ظل الظروف الحالية سيبقى حلماً أوروبياً مؤجلاً، وربما وهم لن يتحقق. قد يكون ذلك حكماً قاسياً، لكنها الحقيقية التي يعرفها القادة الأوربيون حتى ولو لم يعترفوا بها.