بقلم: فيصل اليافعي
الشرق اليوم- “لقد تخلوا عنا في منتصف الطريق” قالها رئيس البلاد بالفرنسية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 سبتمبر، غاضباً من الطريقة التي عومل بها من قبل حُلفائه، وحانقا من اتخاذ القرارات من دون التشاور معه. لكن الزعيم الناطق بالفرنسية الذي يوبخ حلفاءه لم يكن إيمانويل ماكرون غاضبًا من صفقة الدفاع الجديدة بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة، بل كان رئيس وزراء مالي المؤقت موبخاً فرنسا لانسحابها من منطقة الساحل، ولم يكن الرئيس الفرنسي في نيويورك في ذلك الوقت لسماع التحذير من شوجويل كوكالا مايغا، بل كان في باريس، في حالة غضب شديد بلا شك، وأرسل وزير خارجيته لإلقاء كلمة أمام المنظمة العالمية.
ستة أشهر تفصلنا من الانتخابات ولا يظهر أن ماكرون يقدم أفضل ما لديه على الساحة العالمية، ومن الواضح أنه يجيد الحديث، لكن يبدو أن فرنسا صارت قوة عالمية بالاسم فقط، وغير قادرة على تقديم القوة الفعلية والحقيقية التي يريدها العديد من حلفائها.
ومثّل أوكوس ضربة قاسية لفرنسا والتي تعد واحدة من كبار مصدري الأسلحة في العالم، واتفاق أوكوس هو تحالف عسكري جديد أنهى صفقة بمليارات الدولارات تتمثل في شراء أستراليا لغواصات فرنسية الصنع. ولا يدل ذلك على أفضلية الأسلحة الأمريكية فقط، ولكنه يخبرنا بصورة واضحة أنه حتى أقرب حلفاء فرنسا على استعداد لإخفاء معلومات مهمة عن القادة الفرنسيين لعدة أشهر.
والآن جمهورية مالي، فبالإضافة إلى توبيخها لفرنسا من على منصة الأمم المتحدة، تتجه، علانية أيضاً، إلى المرتزقة الروس، وعازمة على العثور على جنود لسد ثغرتها الأمنية، حتى المستعمرات الفرنسية السابقة تريد أكثر من مجرد كلمات حنونة.
وربما لا شيء يوضح الفرق بين طموح ماكرون والواقع أكثر من محاولاته لإصلاح الوضع في لبنان، فعندما التقى ماكرون برئيس الوزراء اللبناني الجديد في 24 سبتمبر، استخدم نبرة احتجاجية أقل بشكل ملحوظ من نبرته في العام الماضي بعد جولته في لبنان في أعقاب انفجار ميناء بيروت. ولم يُفلح حديثه وتواصله مع الزعماء اللبنانيين في تسرع تشكيل حكومة جديدة، ومضى عام من وهو يحث على تطبيق الإصلاحات “العاجلة” ولكن مجهوده ذهب أدراج الرياح.
ويكاد يكون مضحكاً تذكر كلماته قبل أكثر من عام عندما وقف في بيروت وقال بصوت جهوري: “ما طلبته هو … أن تشكيل هذه الحكومة لن يستغرق أكثر من أسبوعين”. وها هو أكثر من عام قد مر قبل الاتفاق النهائي على الحكومة، وذهاب نجيب ميقاتي إلى باريس.
والقضية الأساسية في السياسة الخارجية لفرنسا كما يبدو: هي عدم رغبتها في إرسال قواتها، كما هو الحال في منطقة الساحل، أو استخدام القوة ضد حزب الله، وقد وبخ ماكرون أحد المراسلين الصحفيين العام الماضي عندما سأله عن حزب الله، قائلاً إنه سيكون من “العبث” أن ” اطلب من فرنسا أن تشن حربًا على أحدى القوى السياسية اللبنانية ” مما حول مكانة ماكرون كرئيس لفرنسا إلى مجرد صوت متنمر، يحث الأخرين على التغيير من دون القدرة على فرضه عليهم.
وقد يبدو العراق قصة نجاح نادرة لماكرون بعكس ما سبق ذكره، حيث كان هو الزعيم الغربي الوحيد في قمة بغداد الشهر الماضي، والتي كانت تجمع كبير لقادة الشرق الأوسط في العراق، وبعد أيام قليلة، وقعت شركة الطاقة الفرنسية توتال صفقة ضخمة بقيمة 27 مليار دولار لتطوير النفط والغاز في البلاد.
لكن العلاقات التجارية لا تعني نفوذ سياسي في جميع الحالات، لا سيما في العراق، الذي لا يزال يسعى إلى إثبات وجوده أمام المد الإيراني، وسيبقى النفوذ الفرنسي في العراق محدودا. وعلى الرغم من قول ماكرون إن القوات الفرنسية ستبقى في العراق بعد رحيل الولايات المتحدة، فإن التواجد العسكري الفرنسي اليوم يمثل جزء صغير من التواجد الأمريكي، وغير مرشح للزيادة. وإذا لم تستطع الولايات المتحدة السيطرة على الميليشيات المدعومة من إيران، فما هي فرصة فرنسا في ذلك المسعى؟ وبدون توفر تلك القوة العسكرية الفرنسية، ما الذي يمكن أن يحفز الحكومة العراقية للسماع لما تقوله باريس؟
حتى القصة، التي تم نفيها بشدة، والتي تقول إن ماكرون كان على استعداد لتقديم مقعد فرنسا الدائم في مجلس الأمن الدولي لبروكسل مقابل إنشاء جيش من الاتحاد الأوروبي، بدت وكأنها انعكاس لوضع الرئيس الفرنسي المنكمش على الساحة الدولية. وفي القصة الأخيرة نرى كيف عجزت القوة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي عن إقناع أقرب أصدقائها بدعم خططها العسكرية دون المساومة على أثمن ما تملك، وهو حق النقض في مجلس الأمن، ومن الصعب تخيل روسيا أو الولايات المتحدة وهما يتنازلان عن ذلك المقعد.
ويُظهر الدرس المستفاد من كارثة الغواصة لفرنسا أن خطابها حول القوة العالمية هو مجرد خطاب رمزي. وقد اعترف ماكرون بذلك عندما قال، متحدثًا عن التغيير في لبنان، “أنا أضع الشيء الوحيد الذي أملكه على الطاولة: وهو رأسمالي السياسي”.
والأصدقاء في الشرق الأوسط وأفريقيا، مثلهم مثل الأصدقاء في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لديهم أولويات سياسية صعبة ويحتاجون إلى المزيد، وهم على استعداد تام للبحث في أماكن أخرى، سواء في واشنطن أو إلى مجموعة فاغنر الروسية، من أجل العثور عليها.