بقلم: عبد المنعم علي عيسى – الوطن السورية
الشرق اليوم- لكأن القارة العجوز كانت بحاجة إلى مزيد من الصدمات لكي يتكشف كل هذا الوهن والضعف الذي بدت عليه مؤخراً قبيل نحو أسبوعين، ولكأنها كانت بحاجة أيضاً إلى المزيد من الدلائل لتأكيد حقيقة تراجعها في موازين القوى العالمية، أو على وجه التحديد لتأكيد تراجعها في الحسابات الأميركية على نحو ما ظهرت عليه في غضون الأسبوعين سابقي الذكر، لكن كلا الفعلين، الصدمة والتأكيد، كانا لازمين، كما يبدو، لإخراج كل تلك الريبة والشكوك الغائرة في ذات جمعية ما انفكت تبدي المزيد منهما، منذ عقدين على الأقل، تجاه الحليف القابع على الضفة المقابلة من المحيط الأطلسي، والذي ترى فيه، تلك الذات، خياراً وحيداً لا بديل عن قيادته للحفاظ على الأمن والاستقرار سواء أكان ذلك داخل حدودها، أم كان على تخوم تلك الحدود.
جاء الإعلان في الخامس عشر من شهر أيلول الجاري عن الشراكة الأمنية الإستراتيجية «أوكوس» ما بين ثالوث «الولايات المتحدة، بريطانيا، أستراليا» في منطقة المحيطين الهندي والهادي، بكل ما تحمله الجغرافيا، وكذا العصبية «الأنكلوساكسونية» المعتمدة من دلالات ومعان، ليرخي بظلاله الثقيلة على القارة العجوز التي لم تكن بحاجة إلى فعل المزيد لكي تقض مضاجعها التي لم تكن أصلاً «مثيرة» بما يكفي لنوم هانئ، فالولايات المتحدة، كما تبدت في «أوكوس»، لم تعد راغبة في قيادة العالم، بعدما كان الظن الأوروبي يقول بوجود أخطاء في تلك القيادة، والأمر من شأنه أن يفقد من يتراصفون تحت تلك القيادة الكثير من توازنهم، بل ويشيع لديهم التشتت الذي لا يعود معه ممكناً تحديد اتجاه الشمال الصحيح، ثم من شأنه أيضاً أن يزيد، بنتيجة الشعور بفقدان المظلة الحامية، من عمق التصدعات التي تزايدت أصلاً في غضون المرحلة السابقة، عندما اهتزت تجربة الاندماج التي بدأت في الخمسينيات من القرن الماضي وتبلورت في سبعينياته، والأمر يمكن لحظه عبر الصعود الذي حققه اليمين الانعزالي، الماضي قدماً نحو تعزيز الهويات الضيقة، والداعي أيضاً إلى خصوصية التجارب داخل حدود كل بلد من بلدان القارة المليئة بالعبر والحكم والتجارب، فصعود الأخير بات ظاهرة تميز كل الانتخابات الحاصلة على امتداد القارة منذ نحو خمس سنوات، بما فيها انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، ومعها بدا أن «الحلم» بات بعيداً ولم يعد ممكناً الرهان، فحسب، على «اللاصق» الاقتصادي للمضي قدما في ذلك الرهان.
جاءت ردة الفعل التشنجية التي أظهرتها باريس تجاه إلغاء أستراليا لصفقة الغواصات الفرنسية التي وصفت بـ«صفقة القرن» حين انعقادها العام 2016 بعد أن بلغت قيمتها 36.5 مليار دولار أميركي، لتؤكد أنها، أي باريس ومعها باقي شقيقاتها الأوروبيات، ترى أن الخسارة الكبرى ليست في الخسارة الاقتصادية على أهميتها، وإنما بفعل حالة «الفكاك» الحاصلة مع واشنطن مما يكرسه فعل إلغاء الصفقة الذي حدث ولاشك بقرار من الأخيرة، والتشنج كان من الحدة لدرجة أفقدت باريس «رصانتها وذوقها» المعهودين، وظهر ذلك عبر استخدام عبارات غريبة في الخطاب الباريسي الراصد للحدث، من نوع «الخيانة» و«الأنانية» و«الطعن في الظهر»، وتلك توصيفات تشير إلى عمق «الجرح» المتولد بفعل ذلك الحدث، واللافت هو أن «الشقيقات» شعرن أيضاً بألم الجرح الفرنسي فذهبن إلى إعلان الدعم والإسناد لصاحب هذا الأخير، وهو ما عبرت عنه رئيسة المفوضية الأوروبية العليا أرسولا فون دير لايين، يوم الإثنين 20 أيلول الجاري حينما قالت لشبكة «سي إن إن» الأميركية إن «أحد أعضاء الاتحاد الأوروبي جرى التعامل معه بطريقة غير مقبولة»، والمؤكد هنا أن فعل التضامن البادي هنا في التصريح الأخير يحمل في طياته شيئاً آخر أبعد مما رمى إليه في الظاهر، فهو يعبر عن أن «الصفعة» لم تكن موجهة لـ«الخد» الباريسي فحسب، وإذا ما كان ذلك هو الحاصل فعلاً فإن على «الخدود» الأوروبيات أن تصبح في وضعية الانتظار.
لم يعد الغرب واحداً، بات غربان ولسوف يصبح أكثر في المستقبل القريب، على وقع الخلاف حول مصطلحات ومفاهيم مفصلية من عيار «الشريك والخصم والعدو» ومن يمثلهم في صراع القوى الدائر راهناً، والمؤكد أن هذا الأخير يسجل لروسيا «البوتينية» نجاحها في استعادة جزء من إرثها السوفييتي السابق وهي لا تزال ماضية في طريقها ذاك لا تحيد عنه، أما الصين فهي تغذ الخطا على طريق اختراق العالم بمشاريع عملاقة ذات طموح أسطوري، في حين ظهر أن أميركا ما بعد «أوكوس» قد ارتأت مواجهة الاثنين عبر دثار يعتد بعرق حضاري وثقافي متقارب أكثر، ووحدها القارة العجوز تبدو تائهة، وهي من الوهن بحيث باتت مهددة بفقدان لقب الجغرافيا المصدرة للتحولات العالمية الذي حملته على امتداد قرون طويلة سابقة، هذا إن لم تصبح ملعباً لصراع القوى آنفة الذكر في المرحلة المقبلة التي يشهدها هذا الأخير.