بقلم: جميل مطر – الخليج الإماراتية
الشرق اليوم- أبناء جيلي لا شك يذكرون كما أذكر جنود أستراليا يمشون في شوارع القاهرة بلباسهم الرسمي، يثيرون بعجرفتهم حنق المصريين وغضبهم. أذكر كيف كان أهلي يتفادون السير على رصيف يمشي عليه هؤلاء الجنود، ويتجنبون المحال التجارية التي يتعامل معها الجندي الأسترالي والمقاهي التي يرتادها. كان الأسترالي كالجوركا يأتي إلى مصر في خدمة جيش ملكة بريطانيا، يتصرف كالمحتل ولكن أسوأ. كان يفتعل الشجار مع الوطنيين، أي المصريين، كان ينهب ويخطف ويتحرش.
انتهت الحرب العالمية، ولم يرحل عن مصر كل جنود أستراليا. بقي منهم جنود مع جنود بريطانيا يحرسون قناة السويس ويراقبون تطور الحركة الوطنية المصرية. رحلوا بعد توقيع اتفاقية الجلاء ولكن بقيت حكومتهم برئاسة روبرت منزيس تمارس أقصى سياسات العداء ضد الدولة المصرية منذ شاءت حكومتها أن تؤمم شركة قناة السويس. أذكر لأستراليا، وكنت شاباً واعياً لا أتلقى دروس الوطنية من أب أو أخ أكبر، أذكر أنها، وهي القارة الواقعة في آخر الدنيا، اختارت أن تقف منا كمصريين وغيرنا من العرب ودول عدم الانحياز موقف العداء وتقرر دعم إسرائيل في كل المجالات وبخاصة في الأمم المتحدة.
انتهت حرب السويس. وعلى الفور سقط أنطوني أيدن وبدأت بريطانيا العظمى الانسحاب من جميع مستعمراتها الواقعة شرقي السويس ثم من مستعمراتها الإفريقية. انهارت الإمبراطورية وصارت لندن تستحي من صفة «العظمى» التي درجت البشرية على إلصاقها ببريطانيا على امتداد قرون. كان نظام عالمي جديد قد نشأ بقواعد عمل جديدة وانقسم العالم إلى شرق وغرب ونشبت حرب باردة كان لبريطانيا فيها دور أقل شأناً من دور بريطانيا القائد والموازن في عصر توازن القوى. تغيرت معالم الدنيا وبقيت أستراليا بسياستها الخارجية ودورها الفريد معلماً ثابتاً لا يتغير.
اعتاد العالم على دور لأستراليا في خدمة قيادة المعسكر الغربي حتى جاء يوم من أيام الأسبوع الماضي احتلت فيه أستراليا العناوين وحظيت باهتمام صناع الاستراتيجيات في الشرق كما في الغرب.
تولى جوزيف بايدين رئاسة الجمهورية الأمريكية في وقت عصيب. تولى المنصب الأهم في العالم بعد مجموعة رؤساء تناوبوا على المنصب، ارتكبوا جميعاً بدون استثناء أخطاء اجتمعت عواقبها في عهد آخرهم، جوزيف بايدين. هذا على الأقل ما يلمح به أحد المتعاطفين معه.. عندما تسأل كيف تسنى للرئيس بايدين أن يتخذ قرار تسليح أستراليا بغواصات تدار بالدفع النووي وهو السياسي العريق في مدرسة الإيمان بعقيدة مقاومة انتشار الأسلحة النووية، الأدهى أنه اتخذ القرار وهو على علم كامل بعقد تجاري يلزم فرنسا الحليف المهم في الحلف الغربي بتصنيع سرب غواصات لحساب أستراليا.
سيرة الأخطاء تذكرني بسير مماثلة تحفل بها كتب كبار الذين أرّخوا لعلاقات وحروب أوروبا في القرون الماضية. كل القادة السياسيين أخطأوا متسببين في عواقب كثيراً ما كانت مدمرة. في السيرة الأحدث يتهمون الآن الرئيس ريتشارد نيكسون وتابعه الألماني العبقري هنري كيسنجر بأنهما عن عمد وإصرار أخرجا الصين من عزلتها لتصير جزءاً مندمجاً في مجتمع الدول. ثم جاء من بعدهما من أسهم في وضعها على طريق التقدم الاقتصادي المتسارع الوتيرة. جاء من يستثمر في مشاريع إنمائها ويحيطها بترتيبات أمان واستقرار لم تتح مثلاً لكوريا الشمالية وإن أتيحت لفيتنام بعد أن تسببت بخروج القوات الأمريكية منهزمة من شبه جزيرة الهند الصينية. في الحالتين تشابهت التبريرات. «دعمنا الصين الشيوعية في القرن الماضي لتصبح نداً في صراع مع الاتحاد السوفييتي. نهضت الصين وصارت هي نفسها نداً لنا. الآن ندعم فيتنام لتتمكن من صد توسعات الصين في بحر الصين الجنوبي. وسندعم الهند ونحثها على تصعيد إمكاناتها اللازمة للأمن والحرب حتى تصير نداً للصين في جنوب آسيا. مشكلتنا مع الهند قديمة. الهند لا ترتاح إلى الغرب كما أن إرث نهرو في كره التحالفات لا يزال مؤثراً في الدبلوماسية الهندية في الوقت نفسه تنبهنا إلى الدور الأسترالي المعروف والمعتاد. كان هناك أيضاً التوتر الطارئ والحاد في العلاقات الأسترالية الصينية، فقررنا، ضرورة العمل بالسرعة الممكنة لتلبية حاجة أستراليا إلى الحماية وإشباع الرغبة في تنشيط مكانتها كجناح حيوي لمعسكر الرجل الأبيض بشكل خاص والحلف الغربي بشكل عام، وكانت الصيغة الجاهزة أمام أستراليا ثم أمامنا هي تزويدها بسرب الغواصات من ذوات الدفع النووي». رأي من أمريكا له وجاهة ومنطق ومنسجم مع حال التدهور المتسارع في تماسك الغرب.
التوقيت مناسب. فالإقليم كله منفعل بالفوضى والإدارة السيئة التي شوهت عملية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وكشفت عن مفاوضات الدوحة بين أمريكا و«الطالبان» خيانتها للشعب الأفغاني. كادت الثقة في الولايات المتحدة تنعدم، حتى داخل أستراليا نفسها التي لم تكن شفيت بعد من صدمة عقوبات الصين الاقتصادية.
تراكمت الأخطاء من جميع الجهات، وفوقها جميعاً موافقة أمريكا على تزويد أستراليا بالغواصات نووية الدفع، هنا أظن أن غطرسة النخبة الحاكمة الأسترالية وابتعاد سلوكياتها عن التواضع، إضافة إلى مسحة من «البلطجة» اشتركت فيها الإدارات الحاكمة في واشنطن وكانبرا ولندن، أضف أيضاً اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية وحال الترقب المتوتر لشكل أوروبا ومزاجها بعد رحيل المستشارة ميركل من مسارح السياسة في ألمانيا وأوروبا؛ بل والغرب عامة، جميعها عوامل أسهمت في تضخيم آثار صفقة الغواصات وأصدائها في الصين ودول إقليم جنوب شرق آسيا وفي عواصم الغرب وموسكو وبعض دول الشرق الأوسط مثل إيران وتركيا وفي إسرائيل بطبيعة الحال.
أردد مع آسيويين أعرفهم خشيتهم من مستقبل يشهد نفوذاً أقوى وهيمنة لأستراليا في إقليمي جنوب شرق آسيا وجنوب آسيا. المعروف أن منظمة الآسيان تمر في مرحلة ضعف، وهي ليست المرحلة الاستثنائية في تاريخها. إذ لازمها الضعف والتفكك منذ نشأتها بسبب التدخل المكثف من دول كبرى من خارج الإقليم. نحن هنا في الشرق الأوسط نتفهم قلق الآسيويين في جنوب شرق آسيا؛ لأن قلقاً مماثلاً؛ بل أشد يسود في عديد دوائر التفكير السياسي الحر في العالم العربي. أهملنا في حماية وتطوير جامعة الدول العربية، تركنا منظمتنا الإقليمية تتدهور ومعها مشاريع أمننا القومي حتى باتت تسعى للهيمنة علينا وعلى مصائرنا دول إقليمية غير عربية.