بقلم: عاطف الغمري – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – يتفق بريطانيون على أن التاريخ كان دائماً وعلى طول القرون، عنصراً أساسياً في صنع مكانة بريطانيا في العالم، وتوجهات استراتيجيتها للسياسة الخارجية. والآن تجري عملية تقييم لدور التاريخ بما يمكن أن يشكل تغييرات جذرية في الفكر السياسي لبريطانيا في السنوات القليلة المقبلة.
وما يجري الآن هو بحث عن رؤية تحدث تغييرات في الفكر السياسي، بما يتواءم مع كون بريطانيا الآن، تعيش وسط عالم تنافسي متغير. والرؤية الجديدة التي أعادت النظر في حقيقة أحداث أثرت فيها تاريخياً، ومازالت بعض تفاصيلها خافية، أو مختلفاً عليها، قد طرحت أحداثاً تتعلق مباشرة بمصر، وهو ما جعلني أتوقف أمام ما جاء في كتاب عنوانه «بريطانيا ووضعها عالمياً في عصر التنافسية.. استعراض متكامل لأبعاد الأمن والدفاع والتنمية والسياسة الخارجية».
والكتاب من تأليف مايكل رايس، المدير السابق للتخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأمريكية، الذي يعمل حالياً مستشاراً في الشؤون الدولية.
وكان طرحه لمصر في كتابه، متعلقاً بما جرى في حرب السويس عام 1956، وقد أنزل ضربة قاصمة بالدولة البريطانية. وتلك النتيجة اعترف بها الجانبان البريطاني والأمريكي.
ويقول الكاتب مايكل رايس، إن مكانة بريطانية باعتبارها حتى ذلك الحين، القوة الإمبريالية القائدة لسنوات بعد الحرب العالمية الثانية، قد تحطمت نتيجة سلسلة من نكسات السياسة الخارجية، بما في ذلك غزوها الذي كان التخطيط له سيئاً لمنطقة قناة السويس في مصر، بمشاركة فرنسا وإسرائيل. إن الضرر الذي لحق ببريطانيا وبثقتها في قدراتها، كلفها ثمناً باهظاً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. وأيضاً عدم قدرة بريطانيا على التصرف عالمياً بعيداً عن الولايات المتحدة التي انتقلت إليها قيادة العالم، ممثلة في التحالف الغربي.
وإضافة إلى ما احتواه كتاب مايكل رايس، فقد لحق به كتاب آخر أصدره في عام 1957 دنكان ساننديز وزير الدفاع البريطاني بعنوان: «الكتاب الأبيض عن قضايا الدفاع»، والذي حدد أبعاد التحول الأساسي في وضع بريطانيا عسكرياً واستراتيجياً، في عالم ما بعد السويس، حسب تعبير المؤلف.
وقد تبعه التفكير في التحول داخل بريطانيا وخارجها وذلك في عام 2019، بما يحقق لها اللحاق بصدارة المشهد العالمي، ثم تبلورت الرؤية البريطانية في عام 2021، بما ظهر من رغبتها في صياغة مكانة دولية جديدة لها.
إن جوهر هذا التفكير الذي يحمل مسمى «بريطانيا ووضعها العالمي في عصر تنافسي»، يوضح أن المنظومة المتكاملة للأمن والدفاع، والتنمية والسياسة الخارجية، إنما تستمد طاقتها من تصرفات عملية على أرض الواقع، تستجيب لطموحات الشعوب الأخرى، والإسهام في حل مشاكلها المزمنة التي تعتبر بريطانيا مسؤولة عن جزء كبير منها، عندما كانت هي في قلب التاريخ، أو على الأقل صانعة لكثير من أحداث التاريخ في حياة تلك الشعوب.
وتحدث في هذه النقطة البروفيسور جون بيو، المؤرخ في جامعة لندن الذي استخلص العديد من وجهات النظر المؤكدة لهذا المعنى من خبراء أجانب، ومراكز للبحوث السياسة، بما فيها مركز الأمن الأمريكي الجديد في واشنطن، ومعهد لوي في أستراليا، والمعهد الفرنسي مونتيجن. وكلها اهتمت بتحليل الفكر السياسي الجديد الذي يسعى للخروج من عباءة التاريخ.
في نفس الوقت اتخذت الحكومة عدداً من المبادرات الهادفة جميعها إلى إعادة التوجه الاستراتيجي لبريطانيا، إلى مسار يتلاءم مع وجودها الآن، في عالم تنافسي بشكل يتيح دوراً أكبر للدبلوماسية لدعم أهداف السياسة الخارجية، في إطار التفكير السياسي المتغير للدولة.
وهذا التفكير يعكس طموحات لشكل جديد للدولة البريطانية في العالم، حسب التعبير الذي تردد على ألسنة مسؤولين كبار من أن السياسات الدفاعية المطبقة الآن، لم تعد تكفي للتعامل مع أوضاع العقد القادم.
لكن ذلك كله لا يحجب صورة تفكير مازالت الاختلافات حول نتائجه مستمرة. هذه رؤية عامة من زوايا وجهات نظر متعددة لأصحاب الفكر البريطاني الذين يحاول أن يتغير ليلاحق تغير الزمن.
وكما يقول المؤلف مايكل رايس في كتابه، فإن قدرة بريطانيا على التغير ستتضح من خلال قدرتها على أن تلعب دوراً متميزاً، أو أكثر استقلالية في العالم، ويعتمد ذلك على ما إذا كانت تستطيع تقديم ما هو مطلوب لهذا الدور. فالدور لا يتحقق بالأماني أو الرؤية المنعزلة عن بقية لعالم، لكنه يأتي من إدراك طبيعة المتغيرات في دول العالم من كافة أبعادها، والتشارك مع هذه الدول في همومها وطموحاتها.