بقلم: راغب جابر – النهار العربي
الشرق اليوم – عندما تتغول السياسة على القضاء لا يعود السؤال عن العدالة ذا قيمة. في بلد كل شيء فيه خاضع للسياسة، تصبح الحقيقة مسألة ثانوية خلف “قضايا” الطوائف والأحزاب ومصالحها المعلنة وغير المعلنة. المناسبة التحقيق في تفجير مرفأ بيروت في 4 آب (أغسطس) من العام الفائت الذي لم يصل حتى الآن إلى أي نتيجة، وتتجاذبه الحرب القائمة على جبهة السياسة – القضاء.
الطبقة السياسية جمعاء كانت على علم بوجود نيترات الأمونيوم بكميات مدمرة في المرفأ، الأجهزة الأمنية كافة وبعض القضاء كانت على علم بالقنبلة شبه النووية النائمة في المرفأ بلا أي غطاء ولا أي حراسة. والسياسة والأمن في لبنان شريكان في كل شيء ويتبادلان الخدمات والمعلومات، ومع ذلك انفجر المرفأ، أهم مرفق اقتصادي في لبنان ومبعث فخره، باعتباره باب الغرب على الشرق ومصدر دخل أساسياً (افتراضاً).
في أي بلد في العالم، فور وقوع حادث مثل هذا، يستقيل، أو يقال، المسؤولون المباشرون وغير المباشرين بجرم التقصير وعدم الكفاية، بلا تحقيقات ولا من يحققون: وزراء الداخلية والدفاع والمال والمسؤولون الأمنيون والجمركيون ورئيس المرفأ والمديرون التنفيذيون، ثم تأتي التحقيقات لكشف الحقيقة كاملة وإدانة من تثبت تهمة التورط عليه ومعاقبته. في بلدان العالم يحتكم المسؤول إلى لائحة مبادئ للوظيفة وأخلاقها ومقتضياتها، تضع مصلحة البلد فوق أي مصلحة شخصية أو فئوية، وعليه أن يقدم نموذجاً في المنافبية والالتزام. طبعاً هذا غير موجود في بلادنا حيث الوطن في آخر سلّم الأولويات بعد أولويات أخرى.
في بلاد العالم استقالة المسؤول عند وقوع حدث كبير فعل أخلاقي ودليل رقيّ والتزام واحترام للشعب والدولة، وعندنا استقالة المسؤول، أو إقالته، عار على الحزب والطائفة والزعيم الذين عيّنوه في خدمتهم أولاً.
بعد الأسبوع الأول من الانفجار، بدا واضحاً أن القضية ذاهبة إلى التمييع المريع. لقد أطبقت الطبقة السياسية على القضية إطباق الضواري على فرائسها. دخل نظام الحمايات الطائفية الأخطبوطي إلى الملف البسيط والمعقد في آن، فتشعبت الخطوط، واختلقت روايات، وفبركت تحقيقات وتأويلات، واختُرعت أسماء غطت صفحات الصحف والمواقع والشاشات عن ألسنة مصادر معلومة ومجهولة.
توقيفات “ترفيهية” وادعاءات واستدعاءات لم تظهر شيئاً حتى الآن، بل أدخلت التحقيقات في متاهات لا نهاية لها يشهد القضاء فصولها الأكثر إثارة حالياً.
من المحقق العدلي فادي صوان إلى خلفه طارق البيطار تخرج القضية من نفق وتدخل في نفق. كأنه يراد لها أن تدخل في نفق مقفل لا تخرج منه أبداً.
منذ يومها الأول صارت القضية سياسية، ربما كان الأجدر أن يكون هناك قرار سياسي بحجم الكارثة، لكنه لم يكن، بدا التعاطي السياسي معها بحجم التعاطي مع انفجار قارورة غاز في مطعم بعد انصراف الزبائن. بدأ البحث عن الجاني بين عمال التلحيم والحراسة والمدخنين، علّ واحداً منهم ألقى بعقب سيكارة أمام العنبر الرقم 12 المخزنة فيه النيترات عشوائياً. فهل كان هناك عدم إدراك لحجم الكارثة أم تجهيل للمسؤولين، أم على العكس إدراك كبير لما قد تجره التحقيقات من فضائح؟
القضية الآن في دهاليز السياسة. إنها معركة السياسيين التي سيذهب القضاء والحقيقة ضحيتها، ومعهما أولياء الدم من أهل الشهداء والجرحى وأصحاب الأملاك، بيوتاً ومصالح. ليست القضية قضية صلاحيات المحقق العدلي أو الهيئة العليا لمحاكمة الرؤساء والوزراء. في العمق هي أزمة القضاء في لبنان الذي سلبته السياسة استقلاليته ووضعته في حضنها، تارة تدلـله، وتارة تقرصه، بحسب مزاجها ومصالحها. طارق البيطار هو الاسم، وأي محقق آخر كان سيواجه الحالة نفسها، سواء أكان على صواب في خطواته أم لا.
والنصوص القانونية، كما النصوص الدستورية في لبنان، تركت مساحة كبيرة للاجتهاد، يجتهد القاضي ويبرر فيقنع، ويجتهد السياسي ويبرر فيقنع. وبين تبريرات القاضي وتبريرات السياسي يمضي الوقت، ويظل أصحاب الحق يصرخون إلى أن تموت القضية أو يقبض على الجاني “الصغير” الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة.
إنها مشكلة تركيبة كاملة متكاملة من المتاهات التي أضاعت وطناً بكامله. تركيبة واهية لكنها في العمق متماسكة.