بقلم: وليد فارس – اندبندنت عربية
الشرق اليوم– الانسحاب “المتهرول” الذي نفذته إدارة جو بايدن من أفغانستان، والذي أدى إلى عودة “العدو الطالباني”، لعشرين سنة، إلى السلطة في كابول، وفتح باب الجحيم أمام المدنيين الأفغان، ولا سيما النساء، والأقليات، والشباب، لم تقتصر نتائجه داخل الحدود الأفغانية، بل تعدّاها إلى المنطقة، كما كتبنا سابقاً، فبالإضافة إلى وصول الميليشيات “الإسلاموية” إلى حدود جمهوريات آسيا الوسطى، ودعوة “الإمارة” التكفيريين الدوليين، (الموصوفين بـ”الجهاديين” في الغرب)، لإقامة قواعد انطلاق لهم على أراضي “الإمارة الإسلامية”، فإن نشوة الانتصارات السريعة في أفغانستان، وحصول حركة “طالبان” على أسلحة ثقيلة أميركية، انتشرت في عموم الشرق الأوسط، وبدت بوادرها تطل هنا وهناك.
وإذ بعمليات “الشباب” الإرهابية تتعدد في الصومال، والضربات الانتحارية لتنظيم “داعش” تتكثف في العراق، وعناصر مقاتلة تصل إلى سوريا من أفغانستان، ومنها عبر الميليشيات “الإخوانية” إلى غرب ليبيا، ومنها ربما إلى تونس، والموجة تتوسع في العالم العربي وتحفز الراديكاليين إلى الوثوب، فقامت وحدات تابعة لضباط مؤيدين لفكر “الإخوان” بمحاولة انقلابية في السودان، فككها الجيش النظامي.
الموجة تصل إلى أوروبا
بعد وسط آسيا، والشرق الأوسط، تصل بوادر الموجة الناتجة عن الانقلاب “الطالباني” إلى أوروبا، فاستناداً إلى تقارير وتقييمات استخباراتية (Intelligence Assessments)، فإن الشبكات المرتبطة بتنظيم “القاعدة”، وأيضاً “داعش”، قد نجحت بزرع أعداد من المتحركين داخل المجموعات الأفغانية التي نجحت بالسفر، كلاجئين إلى دول أوروبية على متن رحلات تركت أفغانستان إلى عواصم مختلفة، ومنها الدوحة عبر قاعدة “العديد”، ووصلت بعض هذه الأعداد إلى دول أوروبية مختلفة عبر الاندماج باللاجئين الأفغان الذين سحبتهم واشنطن من بلادهم على أثر الغزو الداخلي “الطالباني”.
وكان أعضاء في الكونغرس ومتخصصون أميركيون قد حذروا إدارة بايدن من التسرع في نقل الأفغان، غير المرتبطين بالقوات العسكرية الأميركية، قبل التأكد من ملفاتهم الأمنية، إلا أن الإدارة سارعت في نقل اللاجئين خوفاً من المجهول، بالتالي باتت مسؤولة بنظر كثير من الدول، وبخاصة الأوروبية، عن احتمالات النتائج الأمنية، وإذ تصل الموجة إلى الأراضي الأوروبية، بدأت العواصم بالتململ، وهي قلقة من نتائج “كارثة أفغانستان” إزاء أمنها القومي.
المخاوف الأوروبية
سواء أكانت في بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، أم في العواصم الأوروبية الأخرى، المخاوف من معادلات جديدة تعيد حركة التكفيريين الإرهابية إلى القارة، باتت حقيقية، وهي تبدأ في أفغانستان نفسها. فمع سقوط الدولة الأفغانية وانهيار أجهزة أمنها واستخباراتها، فتحت ثغرة هائلة من جراء فقدان حليف مؤسساتي للأطلسي في مواجهة الإرهاب والمتطرفين. فبدءاً من مطار كابول نفسه، سيخسر الأوروبيون شريكاً يساعدهم على منع الإرهابيين أو الكوادر التكفيرية من الانطلاق إلى القارة، لا سيما أن الذين منهم قد نجحوا باختراق تلك الدول سيوجهون دعوات لرفاقهم “لزيارتهم”. من هنا، بسبب انسحاب بايدن “الكارثي” ستواجه الأجهزة الأوروبية تحدياً هائلاً في مكافحة الإرهابيين الآتين من أفغانستان تحت حكم “طالبان”، كما يخشى المسؤولون في العواصم الأوروبية من تسلل العناصر الخطرة انطلاقاً من مطارات أفغانستان عبر قطر، وتركيا، وليبيا (طرابلس)، واليمن، وباكستان، وغيرها، ومنها إلى الدول الأوروبية بطريقة أو بأخرى. كما يقلق المسؤولون من اختراق المتطرفين، وبدعم لوجستي من نظام كابول الجديد، لآلاف اللاجئين الذين يسلكون طريق إيران، عبر العراق وسوريا إلى تركيا، فاليونان، أو عبر تركيا إلى غرب ليبيا.
وعلى محور آخر، يقلق معظم المسؤولين الأوروبيين من نشوة التكفيريين “الأفغانية”، (المعروفين في الغرب بـ”جهاديين “Jihadists)، بسبب إعادة تحريك “جبهات” قد تؤثر على أوروبا، ومن بينها غرب ليبيا، ومالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، ونيجيريا، والصومال، وشمال سوريا، وغيرها. كل هذه الساحات قد تعرض دولاً أوروبية لمخاطر إضافية، وقد تدفعها للتدخل، بخاصة فرنسا، بالإضافة إلى احتمال إعادة تحريك الأوضاع في باكستان مع ما يمكن أن يكون لذلك من تأثير على بريطانيا، خصوصاً إذا شمل التوتير الهند وبنغلاديش.
أمن الدول الأوروبية
بريطانيا كانت أول المعترضين على خطة الانسحاب من أفغانستان، لأن تقييمها الاستخباراتي خلص إلى ما حدث بالفعل على أرض الواقع، أي سيطرة “طالبانية” مطلقة على البلاد، مع ما يعني ذلك من ربط “طلبان” مع جماعاتهم داخل باكستان، وهذا بتقدير البريطانيين سيكون له تأثير على الأمن القومي البريطاني بسبب المدى الذي بإمكان الحركة أن توفره لـ”القاعدة” للتنقل الدولي والإقليمي.
فرنسا تعتبر نفسها الأكثر تهديداً من قبل الجماعات الراديكالية التي ستستقوي بالإمارة الإسلامية في أفغانستان، وقد عبر الرئيس إيمانويل ماكرون عن رفضه ممارسات “طالبان”، وصولاً لإرساله تحية لابن قائد المقاومة الأفغانية، شاه مسعود، أي أحمد شاه، الذي يقود مقاومة منطقة “بنجشير” في الشمال، وباريس تواجه أكبر التحديات الإرهابية في القارة الأفريقية، بخاصة في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل، وتواجه أيضاً أكبر عدد من الخلايا داخل فرنسا، ويقول متخصصو الأمن فيها، إن بروز “الإمارة المقاتلة” سيلهب نيران التكفيريين في المدن والبلدات الفرنسية، كما حدث في السنوات الماضية، ولكن بكثافة أكبر.
وهناك دول أوروبية أخرى أيضاً تُبدي قلقاً من صعود “طالبان”، وتأثير ذلك على أمنها القومي، لذلك نرى إسبانيا وإيطاليا تتهيّآن لمواجهة اختراقات يدعمها النظام الجديد في كابول عبر الشبكات “الإسلاموية” الدولية، وهي مترابطة مع خلايا قائمة على أراضي هذه الدول. ونرى اليونان تتهيّأ لمجابهة المتطرفين على جبهة المتوسط، وقد تحركت بسرعة لإقامة جسر استراتيجي دفاعي مع المملكة العربية السعودية وأطلقت المناورات المشتركة مع القوات السعودية، وكذلك تتكثف الاتصالات بين دول في غرب أوروبا وشرقها مع دول التحالف العربي، بما فيها مصر والإمارات، ودول إسلامية معتدلة أخرى.
أوروبا وبايدن
الدول الأوروبية حليفة للولايات المتحدة عبر “الناتو”، وتتحرك دولياً بقيادة واشنطن، وتبرز بعض الخلافات من وقت لآخر، كما حدث خلال حرب العراق، أو إبان مرحلة دونالد ترمب، إلا أن وحدة الموقف ضد الإرهاب والتطرف لم تهتز منذ عشرين عاماً، عندما تم إسقاط نظام “طالبان”، أما بعد إسقاط الحكومة المعتدلة وإعادة الحركة إلى السلطة، فإن وحدة موقف “الناتو” من وراء الستار، تهتز، ولو سراً.
البريطانيون عبروا عن امتعاضهم من تمكين إدارة بايدن للحركة، والفرنسيون انتقدوا الأداء. الناخبون الألمان عبروا عن عدم رضاهم في نتائج الانتخابات التي أضعفت قوة حزب أنغيلا ميركل، وأعداد واسعة من نواب البرلمان الأوروبي، بالإضافة إلى مفوض الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، نددوا بالسياسات التي أدّت إلى سيطرة “طالبان”، وقهرها العنيف للمجتمع المدني، واستضافتها الجماعات الإرهابية على أراضيها. بشكل عام، أوروبا غاضبة على بايدن.
ولكن
إلا أن الحكومات الأوروبية لا يمكنها أن تعارض واشنطن بشدة، وبخاصة في العلن، في ما يتعلق بموضوع الأمن، لأن الأوروبيين يحتاجون للولايات المتحدة في الأمور الدفاعية، فهم لا يزالون يعتمدون على العمق الاستراتيجي للغرب الذي يمتد حتى كاليفورنيا، منذ الحرب العالمية الثانية، في مواجهة أخطار الشرق، سواء أكان الاتحاد السوفياتي أم روسيا الحالية. وهم غير قادرين على التدخل التحالفي الثقيل في دول أخرى، من دون القوة الأميركية، كما حدث إبان حملة السويس في 1956، وعندما هاجمت بريطانيا جزر “فوكلاند” في 1982 لإخراج الأرجنتينيين، اتّكلت على المظلة الأميركية، كذلك، أوروبا تحتاج إلى شريكها الاقتصادي عبر الأطلسي وعلى نفوذ واشنطن في المؤسسات الدولية.
هل ستنشق الحكومات الأوروبية عن الموقف الأميركي في أفغانستان الذي وضع شعوبها في خانة الخطر الإرهابي الأكبر؟ لا أعتقد. هل ستصارع الرئيس بايدن علناً في هذا الموضوع كما فعل جاك شيراك مع جورج بوش، أو ميركل مع ترمب؟ لا أعتقد، ولكن لا نضمن أن الجواب سيبقى هو هو، إذا ضرب الإرهابيون بشراسة داخل الأراضي الأوروبية، لأن الشعوب الأوروبية ستنتفض على حكوماتها إذا حصل زلزال كهذا، لا سمح الله. والأميركيون سينتفضون أيضاً، إذا وصلت الموجة الدامية إلى الولايات المتحدة.
لِنَرَ.