بقلم: نبيل هيثم – صحيفة “الجمهورية” اللبنانية
الشرق اليوم – «الحكومة قرّرت التفاوض مع صندوق النقد الدولي، والصندوق مستعد لإجراء مفاوضات معها»… هذا ما قاله رئيس الحكومة نجيب ميقاتي. وبحسب الوعد الحكومي، فإنّ هذه المفاوضات ستبدأ في غضون أيّام قليلة.
البديهي هنا افتراض أنّ حكومة ميقاتي ذاهبة إلى مفاوضة صندوق النقد، على نقيض حكومة حسان دياب، الذي ذهبت إلى مفاوضات مع الصندوق، بخطة سَمّتها إنقاذية، ثبت أنها ناقصة وغير واقعية وغير مقنعة، رفضَها الصندوق، وحوّلت مفاوضاتها معه إلى «شَرشحة لبنانية»، حوّلت بدورها صندوق النقد إلى «حَكَم» بين الحكومة ومصرف لبنان في خلافهما على فجوة الخسائر والتباين في تقديرها، ولم يكن أمام الصندوق سوى أن يبلغ الطرفين: «إذهبوا واتفقوا على أرقام موحدة وعودوا إلى التفاوض»؟!.
المزاج السياسي العام في لبنان يبدو مُتفقاً في غالبيته على أن لا حل للأزمة، أو وضعها على سكة الحل، خارج صندوق النقد الدولي. لكن الأكيد في هذا السياق أنّ صندوق النقد ليس كرماً على درب يقدّم أمواله هكذا لِوجه الله، بل إنّ خزائن ملياراته مضبوطة على «شيفرة» معقّدة، وحدها «الخطط المُقنِعة له» قادرة على أن تفك رموزها. يعني ذلك إنّ بدء المفاوضات معه لا يعني بالضرورة حَتمية الوصول إلى برنامج تعاون معه، وهو ما خَبِرته الحكومة السابقة حينما بالغت في تفاؤلها واعتبرت أنها بخطة متسرّعة ومركّبة عشوائياً، ستجذب مليارات الصندوق الذي رفض تلك الخطة واعتبرها قاصرة وغير صالحة كأساس للتفاوض.
تلك التجربة الفاشلة للحكومة السابقة، هي بالتأكيد درس وعبرة للحكومة الحالية، المَحكومة بأن تبني على هذا الفشل، ما يحصّن موقعها التفاوضي. ولعلّها أمام أكثر المهام صعوبة، خصوصاً أنّها مقبلة على حقلٍ معقّد؛ فالموقع التفاوضي للبنان صار أصعب مما كان عليه في زمن المفاوضات السابقة مع صندوق النقد التي تعطّلت قبل أكثر من سنة، حيث أن الثقة الدوليّة بلبنان بلغت أدنى مستوياتها، حتى لا نقول إنّها معدومة، والوضع في لبنان تدرّجَ، منذ توقّف تلك المفاوضات حتى اليوم، إلى مزيد من الصعوبة والسوء، وتعمّق الانهيار المالي وزاد حجم الخسائر بشكل مريع، وفقدت الليرة أكثر من 90% من قيمتها وأصبح أكثر من نصف اللبنانيين تحت خط الفقر، ما دفعَ البنك الدولي إلى تصنيف أزمة لبنان من بين أشد 3 أزمات اقتصادية ومالية، على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.
فالخبراء في عالم المال والاقتصاد، وكذلك المواكبون لتجارب مفاوضات صندوق النقد مع دول مأزومة – ولبنان فاقها كلّها سوءاً وتأزّماً – يتفقون على أنّ جدية الحكومة في لجوئها إلى صندوق النقد ينبغي أن ترتكز على «خطة إنقاذية» جديدة علميّة وواقعية تحاكي الواقع كما هو، والخسائر بحجمها الحقيقي، ومتطلبات الانقاذ والاصلاح، وقادرة قبل كلّ شيء على أن تُحاكي ثقة صندوق النقد الدولي، وتقنعه، وتفرض قبوله بهذه الخطة أساساً للتفاوض. وفي هذه الحالة فقط تستطيع الحكومة أن تقول إنّها بدأت أولى الخطوات نحو برنامج تعاون مع صندوق النقد الدولي، علماً أن بلوغ هذا البرنامج قد يتطلّب جلسات عديدة تمتد لفترة طويلة.
في رأي هؤلاء أنّ الخطة الانقاذية الواقعية مطلوبة ومُلحّة لعرضها على صندوق النقد لجذب ملياراته، إلا أن وضعها على سكة الوصول إلى برنامج تعاون مع الصندوق على أساسها، رَهن بشرط ٍأساس في ملعب الحكومة، يفرض عليها أن تُقرِن خطتها الإنقاذية بما تسمّى «خطوات حسن نيّة» مسبقة ، تغري الصندوق، ليس عبر تكرار معزوفة الحكومة السابقة بتأكيد الالتزام بإجراء إصلاحات، بل مخاطبة الصندوق بإصلاحيات فعليّة تُرى بالعين المجرّدة. ذلك أنّ من دونها سيخسر لبنان ورقة صندوق النقد حتماً، والحكومة تَعي ذلك بالتأكيد.
ولعل ما يريده الصندوق من لبنان، أبلغَه الرئيس الفرنسي ماكرون بشكل مباشر وصريح قبل 3 أيّام إلى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، حيث ربط أي مساعدات دولية للبنان بإصلاحات تسبقها. وما هو واضح هنا أن ما قاله ماكرون لميقاتي لا يعبّر فقط عن موقف فرنسي بل يعكس الموقف الدولي بشكل عام.
وتبعاً لذلك، فإنّ ما طَلبه صندوق النقد من الحكومة السابقة لا يبدو أنّه تغيّر، لجهة حاجة لبنان الى ما سَمّاها الصندوق «حزمة إصلاحات شاملة لمعالجة الأزمة المتعمّقة، وتقوية الحوكمة الاقتصادية والمُساءلة، واستعادة الثقة، في الاقتصاد اللبناني». وربطاً بتحقيق ذلك، أكد الصندوق أنّه «مستعد لمضاعفة جهوده مع لبنان»، لكنّه لفتَ في المقابل إلى «أنّنا بحاجة إلى وحدة الهدف في لبنان، وإلى أن تقف جميع المؤسسات معا ًوبعزم لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة».
ويؤكد الخبراء أنّ صندوق النقد مدرك تماماً للواقع المالي اللبناني بأدق تفاصيله، كما هو مدرك أن ما يعانيه لبنان من تحديات اقتصادية واجتماعية عميقة، ناجِم عن نقص الإرادة السياسية لاعتماد وتنفيذ إصلاحات ذات مغزى طالبَ بها شعبه. فما يريده صندوق النقد هو أن يقوم من يسمّيهم «صنّاع السياسات اللبنانيين بتحرّكٍ حاسم لتطبيق إصلاحات شاملة، ولقد سبق له أن وعد بشكل صريح أنّ الالتزام بذلك سيحرّر مليارات الدولارات للبنان، والصندوق مستعد للمساعدة». والمستويات السياسية في لبنان كانت قد تلقّت بشكل مباشر، عبر مدير عام صندوق النقد كريستالينا غورغيفا، برنامج الإصلاحات كما يراها صندوق النقد، وفيه:
– أوّلاً، يتعيّن استعادة ملاءة الموارد العامة وصلابة النظام المالي؛ فما لم يكن الدين العام مستداماً، فسوف يرزح الجيل الحالي والأجيال القادمة من اللبنانيين تحت وطأة مزيد من الديون تفوق قدرتهم على السداد. هذا ما يجعل الصندوق يطالب باستدامة الديون كأحد شروط الإقراض. وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي أن يتسِم النظام المالي بالملاءة، فالذين سبق واستفادوا من العائدات المفرطة في السابق يجب أن يتشارَكوا أعباء إعادة رسملة البنوك لضمان حماية مدّخرات الغالبية العظمى من المودعين اللبنانيين العاديين.
– ثانيا، ينبغي وضع ضمانات وقائية مؤقتة لتجنّب استمرار خروج رؤوس الأموال التي يمكن أن تزيد من ضعف النظام المالي خلال فترة تَرسّخ الإصلاحات المطلوبة. ويشمل هذا الأمر إقرار قانون يشرّع ضوابط رأس المال في النظام المصرفي، ويلغي نظام سعر الصرف المتعدد، وسيساعد هذا على حماية الاحتياطيات الدولية في لبنان مع الحد من مساعي التربح والفساد.
– ثالثا، هناك حاجة إلى خطوات صريحة لتخفيض الخسائر طويلة الأمد في كثير من المؤسسات العامة. فينبغي وجود درجة أكبر من قابلية التنبؤ، والشفافية، والمساءلة، وإجراء تدقيق شامل في المؤسّسات المفصلية، ومنها المصرف المركزي.
– رابعا، ينبغي إرساء شبكة موسّعة للأمان الاجتماعي من أجل حماية فئات الشعب اللبناني الأكثر هشاشة، فلا يجب أن يُطلَب من هذه الفئات أن تتحمل تبعات الأثر المدمر لهذه الأزمة.
ويبقى السؤال: هل أنّ طريق الحكومة إلى التفاوض مع صندوق النقد مُيسّرة سياسياً؟
مؤيّدو خيار الصندوق ومعارضوه من حيث المبدأ يتفقون على أن ليس أمام الحكومة سوى هذا السبيل. بفارق أنّ الحَذِرين من صندوق النقد، وفي مقدمهم «حزب الله»، متوجّسون من شروطه وممّا يسمونها «هَيمنته» على لبنان. ومن هنا يأتي تأكيدهم على ألّا يأتي برنامج التعاون مع الصندوق، إن حصل، ضد مصلحة لبنان ويمسّ بسيادته. وألّا تؤسّس وصفات الصندوق لإنفجار اجتماعي لن ترحم نيرانه أحداً. أما المؤيّدون فيخالفون هذه النظرية ويرون أنّها تتبخّر أمام حقيقة ما تسمّى شروط صندوق النقد، من تحرير سعر صرف الليرة، إلى رفع الدعم وغيرها قد أصبحت مطبّقة بحذافيرها وبأكثر مما يطلبه صندوق النقد، كما أنّها تتبخّر أمام حقيقة أن لبنان بوضعه المأساوي غير قادر على مواجهة أعبائه وتلبية احتياجاته المالية في شتى المجالات، وعلى تحمّل الألم الاقتصادي والمالي والاجتماعي من دون قروض صندوق النقد الدولي.
يقود ذلك إلى افتراض أنّ طريق الحكومة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي مُيسّرة داخلياً، لكنّ الحذر واجب، خصوصاً أن هذا الاستحقاق المهم لن يَسلم من المزايدات.