بقلم: ماتياس ماتيس – مجلس العلاقات الخارجية
الشرق اليوم- تزامناً مع تنحي المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من منصبها بعد 16 سنة على وجودها في السلطة، أصبحت قيادة ألمانيا والاتحاد الأوروبي مفتوحة على جميع الاحتمالات، فما الإرث الذي ستتركه ميركل وراءها؟ وما الأحداث المتوقعة بعد انتهاء عهدها؟ وما أهم القرارات المؤثرة التي اتخذتها؟
محلياً، تَقِلّ القرارات البارزة، منها الاقتراح الدستوري بفرملة الديون لضمان ميزانية متوازنة، وقرارها بالتخلي عن الطاقة النووية تدريجاً في عام 2011 بعد كارثة فوكوشيما في اليابان، وقرارها بتجاوز قواعد الاتحاد الأوروبي بشأن طالبي اللجوء في عام 2015 وفتح حدود ألمانيا أمام أكثر من مليون لاجئ من سورية وأماكن أخرى.
على مستوى الاتحاد الأوروبي، أصرّت ميركل على سياسة التقشف والإصلاح البنيوي خلال أزمة ديون منطقة اليورو، وكانت مُصمّمة على إتمام مشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي “نورد ستريم 2” المثير للجدل مع روسيا، وقد وافقت على ديون الاتحاد الأوروبي المشتركة استباقاً لتداعيات كورونا الاقتصادية.
أمضت ميركل معظم عهدها وهي تدير حكومات ائتلاف واسعة، لا سيما مع “الحزب الاشتراكي الديموقراطي” المعارِض، فكيف انعكس أسلوبها في الحُكم على السياسة الألمانية؟
من خلال التكيّف مع عدد من الأفكار الشائعة وسط “الحزب الاشتراكي الديمقراطي” اليساري الوسطي، بما في ذلك تحديد الحد الأدنى للأجور وتقديم معاشات تقاعد أكثر سخاءً، أصبحت ميركل بفضل ذكائها محور السياسة الألمانية، وهذا ما جعلها قوة انتخابية هائلة. يُجمِع معظم المحللين على فوز حزبها، “الاتحاد الديموقراطي المسيحي”، بكل سهولة خلال الانتخابات المقبلة لو أنها ترشّحت لولاية خامسة.
كذلك، سمح أسلوبها التوافقي وطريقة تعاملها مع الاقتراحات السياسية التي يطرحها خصومها لمرشّح “الحزب الاشتراكي الديمقراطي” لمنصب المستشار الألماني ووزير المال الراهن، أولاف شولتس، بأن يزعم أنه وريث ميركل الحقيقي، لا مرشّح “الاتحاد الديموقراطي المسيحي”، أرمين لاشيت. يبدو أن هذه المقاربة بدأت تعطي ثمارها: نجح “الحزب الاشتراكي الديموقراطي” في عكس تأخّره وبدأ يتفوق في معظم استطلاعات الرأي. لقد أثبت عهد ميركل الممتد على 16 سنة أن الرؤية الشاملة هي وصفة النجاح الحقيقية.
ما تداعيات عهدها على الاتحاد الأوروبي؟ وهل تستطيع أي شخصيات أخرى في أوروبا أن تؤدي هذا الدور بعدها؟
لا شك أن ميركل حافظت على تماسك الاتحاد الأوروبي خلال عقدٍ من الأزمات، بما في ذلك أزمة ديون اليورو، والاعتداءات الروسية في أوكرانيا، وزيادة أعداد اللاجئين بدرجة فائقة، والتصويت على خطة “بريكست” في المملكة المتحدة، والشرخ العابر للأطلسي خلال عهد دونالد ترامب، لكن أهم قرار في عهدها يتعلق على الأرجح بموافقتها على إصدار سندات الاتحاد الأوروبي بطريقة مشتركة في ربيع عام 2020، فبعد تراجع المعارضة الألمانية القديمة لتعميق التكامل الاقتصادي داخل الاتحاد الأوروبي، قد تُمهّد آلية الديون المُجمّعة لإطلاق حقبة جديدة.
في غضون ذلك، يرغب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تسلم قيادة الاتحاد الأوروبي، لكنه لا يتمتع بشعبية واسعة في أنحاء أوروبا بقدر ميركل، ولم تعد فرنسا تملك النفوذ الدبلوماسي نفسه، وفي مطلق الأحوال، من المتوقع أن يصبح شولتس أو لاشيت، وهما السياسيان الأوفر حظاً لتسلم منصب ميركل، قائدَي الاتحاد الأوروبي الجديدَين، لكنهما لن ينجحا إلا إذا أقاما علاقة فاعلة مع باريس، وسيحتاجان إلى بعض الوقت أيضاً لكسب المستوى نفسه من الثقة والرصيد السياسي الذي جمعته ميركل بحذر على مر سنوات عدة.
ما أكبر التحديات أمام الحكومة الألمانية المقبلة في مجال السياسة الخارجية؟
يتعلق التحدي الأول بإعطاء معنىً ملموس للمفهوم الجديد الذي يطرحه الاتحاد الأوروبي حول “الاستقلالية الاستراتيجية المفتوحة”، إذ لا يزال هذا النهج هدفاً مبهماً في الوقت الراهن لزيادة النفوذ الأوروبي العالمي عن طريق توسيع هامش الاستقلالية. يمكن اعتبار الاتفاق الدفاعي الأخير بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة ثم الانسحاب الأمريكي من أفغانستان جزءاً من المؤشرات المؤلمة التي تدفع قادة الاتحاد الأوروبي إلى إدراك ضرورة التوافق حول سياسة دفاعية مشتركة إذا أرادوا أن يصبحوا لاعبين جدّيين في الشؤون العالمية. تتردد النُخَب السياسية الألمانية حتى الآن في القيام بهذا النوع من الالتزامات.
يرتبط تَحَدٍّ بارز آخر بإقناع بقية دول العالم بمعالجة مشكلة التغير المناخي، إذ يجب أن تصبح برلين قدوة للآخرين عبر التخلي عن آليتها الصناعية التي تتابع الاتكال على كميات كبيرة من الوقود الأحفوري والانتقال إلى الطاقة المتجددة، ومن المنتظر أن تكون المفاوضات المرتبطة بالائتلاف الحكومي طويلة وشاقة، لكنها ستُحدد في نهاية المطاف مدى قدرة الألمان على أداء هذه المهمة.
بالاتفاق مع صحيفة الجريدة