بقلم: وليد فكري – سكاي نيوز
الشرق اليوم- يتحدث الكثيرون عن مطلب فصل الدين عن الدولة، فدعوني أحدثكم عن مطلبي فصل الدين عن التاريخ..
منذ فترة بعد حديث لي عن غزوة الأحزاب الشهيرة بـ”غزوة الخندق” فوجئت بمن يعلق متهمًا إياي أنني من “النواصب”، وهم لمن لا يعلم “كارهي آل البيت النبوي الشريف”، وقد برر هذا الشخص هجومه عليّ بأنني لم أذكر واقعة المبارزة بين الإمام علي بن أبي طالب والمقاتل القرشي “عمرو بن عبد ود” والذي انتهى بانتصار الإمام علي ومقتل عدوه.. واعتبر أنني بذلك قد فقدت مصداقيتي لإغفالي واقعة هو يراها محور المعركة كلها، بينما أنا كنت أتحدث عن الغزوة بشكل عام لا عن تفاصيلها الداخلية.. وعندما حاول البعض الرد عليه فوجئت بالحوار بين الطرفين قد تحول إلى مشاجرة “سنية-شيعية” عنيفة بما فيها من تراشق بالألفاظ الحادة!
وبعد حلقة من برنامجي قدمتها عن “نضال أٌقباط مصر ضد الاحتلال الروماني”، وبسبب إرجاعي ابتكار نظام الرهبية واعتزال الناس لأنه من آليات تجنب التعرض لاضطهاد الرومان، ثار بعض المتابعين من المسيحيين واعتبروا أنني أسيء للقديسين بقولي إنهم يفرون بدينهم واتهمني بالإساءة للدين المسيحي!
ومن المعتاد من وقت لآخر أن أجد من يوجهون لي تهمًا من نوعية “الحقد على الإسلام والمسلمين” أو “تشويه الإسلام” بسبب نقدي الشديد للدولة العثمانية.
وفي ذات الوقت -سبحان الله- وجدت من يتهمني أنني “إسلامجي مستتر” بسبب وصفي الحضارة الإسلامية بأنها الأعظم بين حضارات العصور الوسطى.
وعلى إحدى مواقع التواصل الاجتماعي تلقيتُ هذه الرسالة “لماذا كتبت كتابًا عن مَقاتل السلاطين المماليك المسلمين وكتابًا عن مَقاتل الخلفاء المسلمين ولم تكتب عن مَقاتل النصارى واليهود؟ لماذا تعادي دينك؟”
كل هذه النماذج مجرد غيض من فيض، فالمرء بعد حوالي 12 عاما من احتراف الكتابة التاريخية لم يعد يحسب كم من رسالة أو تعليق غاضب يتلقاه بسبب من يقحمون الأديان في علم التاريخ!
هذا فضلًا عن محاولة بعض المشتغلين بعلم الحديث أو الدائرون في أفلاكهم أن يضعوا علم التاريخ تحت وصايتهم وكأنه مجرد فرع من علم الحديث الذي هو مع كامل الاحترام للمشتغلين به علم منفصل عن علم التاريخ.
وإذا قلت لهم أن الدين وعلومه منفصلون عن علم التاريخ قالوا لك باستنكار “الدين مرتبط بشكل شيء!” حسنًا.. لماذا إذن إذا مرض أحدكم لا قدر الله يذهب للطبيب لا للشيخ؟!
وهل من المعقول لعلم يقوم على نظر الوقائع والأشخاص والحالات وتحليلها ودراستها وتفسيرها أن يجد نفسه مقيدًا بـ”الحصانة الدينية” على فترات بأكملها؟ فلا يمكن لدارس التاريخ أن ينقد هذا لأنه صحابي أو ذاك لأنه قديس أو هؤلاء لأنهم خلفاء مسلمون أو هذه الدولة لأنها إسلامية.. إلخ؟ أو أن يجد نفسه ملزمًا بإطلاق أحكام مسبقة بالبراءة أو الإدانة لقوم على حسب مدى اتفاقهم أو اختلافهم معه دينيًا ومذهبيًا؟ ماذا بقي إذن من علم التاريخ لنمارسه بشكل جدي؟!!
قد يسألني البعض: وكيف نفصل الدين وهو جزء من المكونات الشخصية لأغلبنا عن التاريخ وما فيه من تداخل مع أدياننا باعتبار أن نشأتها وأحداثها قد وقعت في إطار هذا التاريخ؟
سأعطيكم مثالًا.. ثمة واقعة تقول إن يهوديًا بالمدينة اختصم علي بن أبي طالب عند الخليفة عمر بن الخطاب.. فاستدعى عمر علي إلى مجلسه للنظر في الخصومة.
ألم يكن من الممكن أن يقول الخليفة لليهودي “كيف تتهم علي بن أبي طالب وهو من هو صحبة وفقهًا وقرابة لرسول الله؟” أو أن يقول “لا أصدق أن علي يفعل ما تتهمه به لأني أعرفه”؟ لماذا لم يفعل عمر بن الخطاب ذلك؟” الإجابة: لأنه يعرف أن للقضاء قواعد لا تعرف محاباة لشخص بسبب دينه أو مكانته.. وهو القائل “البيّنة على من ادّعى” أي أنه ربط الإدانة بوجود البينة لا بشخص المدعى عليه!
هذا هو مربط الفرس.. فالمشتغل بالتاريخ مثله كمثل القاضي، لا يعامل الحالات التي يدرسها على أساس مواقفه الشخصية أو انحيازاته ومعتقداته الخاصة وإنما على أساس الوقائع والأدلة والقرائن والأركان المادية “الفعل” والأركان المعنوية “القصد والنية”.. وليس على أساس “من صاحب الحالة”! أو كما يدرس طلبة القانون أن القاعدة القانونية “قاعدة عامة مجردة” أي أنها تعم الكل وأنها تتجرد من المحاباة أو الانحياز”.. وهو ما يلتزمه القاضي.. فالمؤرخ والباحث في التاريخ هو كهذا القاضي يعامل الأشخاص التاريخية بعمومية وتجريد.
بل أن من وقائع الصحابة أنفسهم ما يدل على هذا التجرد ورد الشخص التاريخي إلى إنسانيته.. فعندما توفي الرسول محمد وقف أبو بكر الصديق وقال “من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات”.. لم يقل “رسول الله” بل قال “محمدًا” لأنه في هذا السياق يُذَكِّر الناس بأن الرسول هو بشر يجري عليه الموت كما يجري على سائر المخلوقات!
فكذلك التاريخ يقول إن كل البشر وكل الدول وكل الوقائع تجري عليها احتمالات الصواب والخطأ والقابلية للنقد سلبًا أو إيجابًا لأن أبطالها هم في النهاية بشر!
ولنذكر أن المبالغة في تحصين شخص أو واقعة من النقد إلى حد التفاعل بهيستيريا مع أية محاولة لذلك هو مما يبعث برسالة مفادها أن هذا الشخص أو تلك الحالة هم من الهشاشة والضعف أمام النقد إلى حد تلك الاستماتة في تحصينهم، وهو ما يمثل تضليلًا للمشتغل بالتاريخ فضلًا عن كونه إساءة للشخص التاريخي والحالة التاريخية من حيث أراد المدافعون أن يُحسنوا!