بقلم: ندى الملّاح البستانيّ – صحيفة “الجمهورية” اللبنانية
الشرق اليوم – قد يكون التقدّم التكنولوجيّ والذكاء الاصطناعيّ أقوى أدوات التغيير في عالمنا اليوم، إذ تنبعث الابتكارات الجديدة لتتحدّى طرائق ممارسة الأعمال التجاريّة التقليديّة. ففي السنوات الأخيرة، اكتسبت الشعبيّة الكبيرة تقنيّة سلسلة الكتل أو ما يُعرف بـ”Blockchain”، الآليّة الأساسيّة لعمل العملات المشفّرة. تتمتّع هذه الشبكة بلا مركزيّتها، وبعدها عن القرارات الحكوميّة، كذلك مرافقتها بأخطار احتيال بالحدّ الأدنى، ما جعلها البديل المفضّل لدى الكثير من المستثمرين وكذلك الأفراد. كما أنّ بعض الشركات أصبحت تقبل بالعملات المشفّرة وسيلة للدفع بدلاً من العملات التقليديّة. فهل يمكن لثورة العملة المشفّرة إحياء السياسات والاستراتيجيّات المنفّذة بعد مراحل الكساد الاقتصاديّ؟ وهل تكون الأزمة الاقتصاديّة في لبنان عاملاً دافعاً نحو تبنّي هذه الحلول الماليّة المبتكرة؟ هل يمكن أن يدخل لبنان التاريخ ليكون سبّاقاً مع بعض البلدان التي بدأت تتبنّى العملات المشفّرة بصفة قانونيّة؟
في المشهد اللبنانيّ نجد أنّ جميع القائمين على إيجاد الحلول لمشكلة البلد الاقتصاديّة، قد يكونون إمّا عاجزين عن تثبيت سعر صرف الليرة، أو أنّ سياساتهم تعتمد منهج تقلّب سعر الصرف في السوق السوداء لتخفيف صدمة رفع الدعم المتدرِّج، خصوصاً على المواد النفطيّة. كما نرى أنّ جميع الحلول هي حلول جزئيّة وظرفيّة في حقيقة الأمر، فالاقتصاص من الودائع هو شبه هيركات، أمّا نظام الضرائب مع التهريب العلنيّ فهو في غيبوبة، وأمّا رفع نسبة الديون بالليرة اللبنانيّة فمن دون خطّة واضحة.
إنّ جميع ما ذُكر مجرّد حلول سطحيّة تعالج العوارض من دون المشاكل، وهي تمسّ مصالح قلّة قليلة، وبعيدة كلّ البعد عن إنقاذ الشعب اللبنانيّ نفسه. فأين سياسات تفعيل منظومات تحفيز المؤسّسات الناشئة؟ وأين التسهيلات للمستثمرين في إيجاد المنتجات الوطنيّة البديلة؟ وهل فكّرت الحكومات المتتابعة بالابتكارات الماليّة، والعملات المشفّرة كونها إمكانيّة حلّ لكارثتنا الاقتصاديّة؟ أو أدرجتها على جدول أعمالها أقلّ الإيمان؟
بالطبع، إنّ التعامل بالعملات المشفّرة يسحب البساط نوعاً ما من تحت السلطة الحاكمة، فالمصرف المركزيّ غير قادر على مراقبتها وتنظيمها، كما أنّها تفتقر إلى وجود الاحتياطات بالعملة الأجنبيّة اللازمة لدعمها في ظلّ تبخّرها المستمرّ من الاحتياطيّ «شبه» الإلزاميّ.
ونتساءل هنا: ماذا حصل بطرح حاكم مصرف لبنان يوماً مشروع الـ E-Lira؟ أكان مجرّد فقاعة إعلاميّة أم فكرة شخصيّة؟ إنّ العملة الرقميّة هي وسيلة عمليّة لتبادل العملات تحت إشراف مصرف لبنان، ما يسهّل العمليّات التجاريّة بين روّاد الأعمال، والمشاريع الصغيرة والمتوسّطة، من دون الحاجة إلى التعامل بالعملات الأجنبيّة التي يزداد صعوبة الحصول عليها يوماً بعد يوم، لا سيّما أنّ اللبنانيّ أمام لائحة أولويّات تبدأ بدفع ثمن المحروقات وتمرّ بالأقساط المدرسيّة، ويرغب ألّا تنتهي بفاتورة الاستشفاء والمعالجة الطبيّة، لأنه يمنّي نفسه بعمليّات تخفّف من وطأة العجز الماليّ بالعملات الأجنبيّة في أيّ تعامل ماليّ يُجريه خارج البلاد.
وفي العودة إلى الواقع، من شأن العملات المشفّرة أن تساند الشركات الصغيرة والمتوسّطة تحديداً في النموّ المتسارع، كما تحفّز كبار الصناعيّين والتجاريّين على إيجاد الحلول البديلة لأزمة الدولار الأميركيّ ومصائب السوق السوداء. لا بل يمكنهم حينها أن يقوموا بعمليّات الاستدانة للقطاعات الصغيرة ضمن منظومة لا مركزيّة تشهد إقبالاً في دولٍ نامية من العالم.
إنّ واقع لبنان المصرفيّ، والذلّ الذي يتعرّض له المواطن لسحب مدّخراته، من شأنه أن يحوّل أنظار الزبون نحو الحلول الخارجة عن منظومة السلطة – القطاع المصرفيّ، الذي وجد نفسه في متاهتها اليتيم الوحيد. فهو اليوم، قد يميل إلى المجازفة وتبنّي منظومة العملات المشفّرة في لا مركزيّتها، حينها لن يستفيق يوماً على هيركات أو غيره من السياسات المفاجئة التي يمكن أن تطبّقها المصارف المركزيّة ضمن نطاق سيطرتها.
إنّ الميزتين الأساسيّتين للعملة المشفّرة، في لبنان تحديداً، تكمن في خروجها عن تحكّم السلطة الحاكمة التي لم توفّر فرصة إلّا وطعنت بمصالح المواطن على حساب مصالحها ومناوراتها السياسيّة. وكذلك، من ناحية عمليّة، لن يحتاج اللبنانيّ إلى الوقوف في الطوابير للحصول على أمواله، ولا تقطيرها ضمن تعاميم مبهمة، ولا أيضاً التعرّض لخطر السرقات في حال تنقّله مع أمواله.
وتُبيّن الدراسات التي طُبقّت على بلدان كثيرة واجَهت إحدى أزمات اقتصاديّة عصيبة، «وقد جمعها لبنان كلّها في أزمته الاقتصاديّة»، أنّ نسبة من المواطنين يميلون إلى تبنيّ العملات المشفّرة كقيمة بديلة لعملتهم الوطنيّة. لذلك، يمكننا أن نربط ارتفاع قيمة العملات المشفّرة بظهور الأزمات الماليّة في العالم نظراً لزيادة الطلب مقابل العرض.
كما أنّ حكمة المواطن اللبنانيّ وخبرته الماليّة المريرة التي تناهز الأربعين عاما، تجعله ميّالاً إلى الإقبال على العملات المشفّرة، كالبيتكوين. فهي، ولو أظهرت تقلّبات في قيمتها، إلّا أنّها أثبتت صلابتها على المدى الطويل وارتفاع قيمتها بأضعاف مضاعفة منذ بداية طرحها للتعامل. ومن منظور تجاريّ ربحيّ، لا يوجد أيّ استثمار لا يعرف هامشاً من المخاطرة، واللبنانيّ بات على قناعة أنّ هامش المجازفة الأكبر يكمن في الوقوف مكتوف الأيدي، وراضخاً للأمر الواقع من دون إيجاد الحلول البديلة.
لا نختلف على تشخيص واقع البلد المريض اقتصاديّاً، لكن لا مانع من أن نُنوّع المصادر العلاجيّة. لذلك، على الهيئة الاقتصاديّة الماليّة أن تُعيد تقييم سياساتها، فتبحث عن سبل تطوير عمل الأفراد والشركات والمؤسّسات لتكون بديلاً عن النظام الريعيّ، لا أن نستبدل مصدراً بآخر. ومن شأن تبنّي الدولة اللبنانيّة سلّة من العملات المشفّرة أن توفّر للسوق المحلّية ميّزات مهمّة، في كلفتها المتدنيّة، وشفافيّة التعامل بها في حال تنظيمها، فتدعم بوجهٍ أكبر ريادة الأعمال. والأهم من ذلك كلّه، أن تحدّ من مستويات الفقر، كما حصل في بعض البلدان النامية.
فعلى سبيل المثال، أصبحت البيتكوين، اعتباراً من 7 أيلول الماضي، عملة رسميّة في دولة السلفادور إلى جانب الدولار الأميركيّ، بعد أن أصبحت هذه الدولة أوّل من يعتمد العملة المشفّرة كعملة قانونيّة في تداولاتها اليوميّة، إذ أكّدت مسبقاً أنّها اشترت 400 وحدة بيتكوين، أي ما يعادل حوالى 20 مليون دولار أميركيّ.
يؤكّد مؤيّدو العملات المشفّرة أنّ هذه الخطوة من شأنها أن تجعل إرسال الأموال لدى المهاجرين أرخص وأسهل إلى بلادهم، وهو أمر بالغ الأهميّة لأنّ هذه التحويلات تمثّل أكثر من 24% من الناتج المحلّي الإجماليّ للبلاد، ونصف إجماليّ الدخل لثُلثي الأُسَر فيها، ما يُمَكّن هذه الخطوة من أن تحسّن وصول المواطنين إلى الخدمات الماليّة بيُسر.
في الطرف المقابل، ثمّة مخاوف من اعتماد هذه العملة التي شهدت تقلّبات في أسعار صرفها، ما يجعلها مصدراً يُقلق الاستقرار الاقتصاديّ في السلفادور. فبعد أن وصلت إلى أعلى مستوى تاريخيّ لها لأكثر من 60 ألف دولار أميركيّ مقابل البيتكوين الواحد في نيسان 2021، هبطت قيمتها إلى ما يُقارب النصف في بدايات الصيف.
اليوم، سيتمكّن المواطنون في السلفادور من دفع الضرائب بعملة البيتكوين، وستكون المتاجر قادرة على عرض الأسعار بالعملة المشفّرة. ولن تخضع الأموال المشفّرة التي يتمّ تبادلها لضريبة أرباح رأس المال. كما تستعدّ الحكومة السلفادوريّة بقيادة رئيسها «ذي الأصول الشرق أوسطيّة» لدعم هذه العملة المشفّرة لأشهُرٍ، عن طريق تثبيت أجهزة الصرّاف الآليّ، كي تسمح للمواطنين بالتحويل بين العملتين الرسميّتين في البلاد (الدولار الأميركيّ والبيتكوين).
كذلك أطلقت الحكومة محفظة رقميّة خاصّة بها سَمّتها «Chivo»، تمنَح مستخدميها ما يعادل مبلغ 30 دولارا أميركيّا من عملة البيتكوين مجّاناً، لتشجيعهم على تبنّي العملة الجديدة، وتقوم هذه المحفظة بعمليّة التصريف بنفسها تحت أوامر المستخدم، ولن يدخل هو في عمليّة التعدين المعقّدة.
فهل يكون لهذا التشابه الماليّ بين السلفادور ولبنان في اعتماده على حوالات المهاجرين وعَيشه مرحلة الكساد الاقتصاديّ دور مُلهِم لأصحاب القرار في لبنان؟ أم أنّهم سيتمتّعون بلعبة تقلّب سعر الدولار في السوق السوداء كحلّ مؤقّت إلى حين تمام زوال المواطن والبلد؟ وإن لم نتحفّز في الأزمات على إيجاد الحلول البديلة وتقييم الابتكارات الماليّة الممكنة وتنظيمها وتقنينها، فمتى يكون ذلك؟