بقلم: د.وحيد عبدالمجيد – صحيفة “الاتحاد”
الشرق اليوم – ليست جديدةً، ولا هي قليلة، الغرائب في الأزمة الليبية. مواقف تُثير العجب تتخذها جماعات وشخصيات سياسية، فضلاً عن مليشيات يتحدى استمرار وجودها اتفاقات وتفاهمات دولية عدة بشأن انسحابها. ويرتبط معظم هذه المواقف في الوقت الراهن بالسعي إلى تعطيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتفق على إجرائها في 24 ديسمبر المقبل. الوقت يمضي، ولم يبق سوى نحو ثلاثة أشهر، فيما أصحاب المصلحة في إعاقة الطريق أمام الحل الذي حدث اتفاق دولي وإقليمي، وداخلي أيضاً، عليه لا يريدون إجراء الانتخابات. وقل مثل ذلك عمن يخشون نتائجها بعد أن عرفوا جيداً حجمهم الحقيقي.
لكن آخر المواقف الغريبة حتى الآن وربما أكثرها إثارة للدهشة، لأنه يتعلق باعتراض على إصدار البرلمان (مجلس النواب) قانون انتخاب رئيس الدولة، بدلاً من توجيه الشكر إليه لنجاحه في اتخاذ خطوة كبيرة باتجاه إزالة عوائق توضع أمام عملية انتخابية يتوقف عليها خلاص ليبيا وإنقاذ شعبها. فما أغربه الاعتراض على حق برلمان، أي برلمان، في إصدار قانون منفرداً، أي إنكار قاعدة ثابتة ومستقرة ومعمول بها في دول العالم على اختلاف نظمها السياسية، وهي أن المجلس النيابي صاحب الاختصاص الأصيل في التشريع والرقابة.
والتشريع يعني إصدار التشريعات، أي القوانين ولوائحها التنفيذية، ومراجعتها وتعديلها وكذلك إلغائها عند الحاجة، وكذلك التصديق على الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي تعقدها السلطة التنفيذية. فالمجلس النيابي يختص بجميع ممارسات السلطة التشريعية وفق مبدأ الفصل بين السلطات، الذي كان عالم الاجتماع الفرنسي شارل دي مونتسكيو أول من بلوره وشرحه في كتابه المرجعي «روح الشرائع» الذي صدر أصلاً بالفرنسية عام 1748، وتُرجم إلى معظم لغات العالم في طبعات لا تُحصى.
لا أحد في العالم يُنازع في الاختصاص التشريعي للمجالس النيابية، منذ إنشائها في أوروبا أولا، وانتقالها بعد ذلك إلى أنحاء العالم. وقد بدأت الإرهاصات الأولى لذلك التطور التاريخي، الذي أدى إلى وجود سلطة تشريعية مُعتمدة، في بريطانيا نتيجة تراكمات تدريجية ترتبت على أول وثيقة للنظام السياسي الحديث، وهي الميثاق الأعظم (الماجنا كارتا)، في إطار سعي البارونات الممثلين للطبقة الاجتماعية العليا في تلك المرحلة إلى ضمان مصالحهم عبر المشاركة في السلطة.
وتوالت بعد ذلك تطورات تدريجية قادت في النهاية إلى تقنين دور البرلمانات واختصاصها بالتشريع، إلى جانب الرقابة على السلطة التنفيذية، خلال القرن الثامن عشر في بريطانيا أولاً، ثم في الولايات المتحدة عند تأسيسها، وفي فرنسا بعد ثورة 1789. وانتشر وجود هذه المجالس تدريجياً أيضاً في العالم خلال القرنين التاليين، بما في ذلك ليبيا بعد استقلالها عام 1951، إذ كان فيها خلال العهد الملكي (1951-1969) مجلس نواب يُنتخب من الشعب ويمارس سلطة التشريع والرقابة على الحكومة، ومجلس شيوخ كان الملك يُعين أعضاءه الأربعة والعشرين، بواقع ثمانية ممثلين عن كل من الولايات الثلاث (برقة وفزان وطرابلس).
والحال أن مجلس النواب الليبي لم يفعل أكثر من ممارسة دوره واختصاصه الأصيل، بل واجبه الوطني، وإصدار قانون انتخاب رئيس الدولة، على النحو المعمول به في كثير من الدول ذات النظام الجمهوري، إذ ينص على أن يكون انتخابه بالاقتراع العام السري المباشر. وحدد شروط الترشح لمنصب الرئيس، والتي يوجد مثلها في كثير من الدول، لكنه جعلها أكثر يُسراً، وخاصة فيما يتعلق بحاجة المرشح إلى تزكية من خمسة آلاف ناخب فقط، في حين تشترط قوانين دول أخرى أضعاف هذا العدد.
لقد أخذ مجلس النواب الليبي خطوة مُهمة نحو تذليل عقبات توضع عمداً لعرقلة انتخابات مصيرية، وصار على المجتمع الدولي أن يتحرك لتثبيت ما أنجزه، والسعي إلى إكماله.