بقلم: حسين منيمنة – موقع الحرة
الشرق اليوم– الخطوة غير المسبوقة، في استدعاء باريس لسفيرها في واشنطن، هي تعبير عن الغضب للإساءة التي تعرّضت لها فرنسا في إلغاء أستراليا المفاجئ لصفقة الغواصات التقليدية من فرنسا، والتي كانت قيمتها تبلغ عشرات المليارات من الدولارات.
جاء هذا الإلغاء في إطار الاستفادة الفورية لأستراليا من الإعلان المفاجئ لحلف “أوكس” الذي يجمعها اليوم والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، ليزيد الإعلان من المرارة في باريس، ذلك أن التحالف الجديد، المعني بتعزيز الأمن والاستقرار في المحيطين الهادئ والهندي، قد قام للتوّ بين هؤلاء الحلفاء الغربيين، دون دعوة فرنسا إلى المشاركة، أو حتى دون اطلاعها المسبق على المفاوضات التي أودت إليه، رغم أن لفرنسا حضور هام في كل من المحيطين، بشكل محافظات وأراضٍ، والتي وإن كانت بأمسها مستعمرات وجزر نائية، هي اليوم “فرنسا المهجر”، أي أنها متساوية في الحقوق والسيادة مع فرنسا القارية.
من السهل الإمعان بالحديث على أن العلاقات بين الدول قائمة على المصالح، وأن هذه المصالح لا تتبدل مع تداول الرئاسات، وأن ما جرى لفرنسا يندرج في إطار التخفيض المتواصل لواشنطن لترابطها مع حلف شمالي الأطلسي، الذي أمسى يفتقد التأطير وربما الجدوى، وتخلي الولايات المتحدة عن دورها كمظلة أمنية للدول الأوروبية، أو حتى، لدى من يرغب برؤية ذلك، في إطار الانهزام الأميركي المفترض، أو أقلّه التراجع إزاء ذلك العملاق التاريخي الصاعد، وهو ربما الصين، أو روسيا، أو إيران، أو فنزويلا، أو ضاحية بيروت الجنوبية.
الواقع، للتأكيد مجدداً، هو أن القوة العظمى الوحيدة في العالم تبقى الولايات المتحدة، ومصالحها، باتفاق التوجهات المختلفة داخلها، هو بتثبيت منظومة الاستقرار العالمي، انطلاقاً من قناعة أن الازدهار ليس معادلة صفرية، وأن صعود الصين، وغيرها كالهند، اقتصادياً، هو أمر حاصل ولا يتعارض مع الاستقرار العالمي، شرط أن يكون صعوداً هادئاً، وألا تعتريه رغبات متسرعة لدى بعض الجهات الحزبية والعسكرية في الصين لصرف فائض القوة الاقتصادية نفوذاً مسلحاً.
الخلاف، داخل واشنطن، هو في تقييم الجموح الصيني، وما إذا كان يغلب عليه طابع الجشع التجاري وحسب، أو ما إذا كان الحالمون بالمغامرات العسكرية أكثر نفوذاً، كما يتبدى من بعض المواقف والأعمال، من بناء الجزر الاصطناعية في بحر الصين الجنوبي إلى تهديد تايوان، وتقويض استقلالية هونغ كونغ الاقتصادية، أو القمع الإبادي للأويغور في تركستان الشرقية، أي شينجانغ الصينية.
المصلحة الموضوعية للولايات المتحدة، في سعيها إلى احتواء السلبي وتشجيع الإيجابي في الصين هي في التحسب، على حدة، لغلبة كل من الوجهين. أي التفاعل مع الصين والتعاون معها حيث التقييم يظهر غلبة الجانب الإيجابي، وتطويقها وردعها حيث القراءة تكشف عن تصاعد السلبيات.
الأدوات التي تسعى الولايات المتحدة إلى توظيفها في التحسب للسلبيات عديدة، ملتبسة، متداخلة، بل متضاربة إلى حد ما.
المسعى الأميركي إلى إيجاد دور جديد لحلف شمالي الأطلسي يجعل من الصين موضع اهتمام اعترضته مواقف أوروبية ممتعضة وممتنعة، ولا سيما منها ما جاهر به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن التعاطي مع الصين لا يحتاج أن يكون من موقع التصادم. بل ربما يرى البعض بأن إهمال واشنطن لباريس اليوم هو المعاقبة لهذا الموقف.
لا يمكن تجاهل هذه الإمكانية، ولكن إن كان الأمر كذلك، فقد لا يصح الافتراض بأن هذه المعاقبة جاءت بقرار فصيح من الرئيس جو بايدن، بل قد يكون منشؤها مستويات متدنية. عودة إلى هذه النقطة بعد قليل.
الولايات المتحدة كانت قد أعادت ترتيب انتشار قواتها عالمياً لترفع من الدمج بين القيادات المعنية بالمحيط الهادئ والمحيط الهندي، وهذا بحد ذاته إشهار واضح حول طبيعة تعاملها مع الصين، في حساب الحالة الأكثر سوءاً. أما فيما يتعدى الخطوات الأحادية، ونظراً إلى الصعوبات في الدفع بحلف شمالي الأطلسي باتجاه التركيز على الصين، فإن اعتماد الولايات المتحدة هو على التوافق في الرؤى مع دول الجوار الآسيوي، ومنها “الآسيان” جنوب شرقي القارة، لتقوية التحالفات العسكرية معها، فرادى وتجمعات، ولإنشاء المحافل الجديدة، مثل “الكواد” أي الرباعية، مع الهند واليابان وأستراليا، وهي الدول الأكثر عرضة للتضرر من التهديدات الأمنية الصادرة من الصين، ومثل “أوكس”، بطابعه الأكثر دقة، والذي جرى الإعلان عنه مؤخراً.
“أوكس” ليس دون سوابق. “أنزوس” جمع، ولا يزال وإن خفّت مفاعيله، الولايات المتحدة مع أستراليا ونيوزيلندا. ثم أن “الشقيقات الخمس” (الولايات المتحدة، كندا، المملكة المتحدة، أستراليا، نيوزيلندا)، نظراً للخلفيات اللغوية والتاريخية والبنيوية المشتركة بينها، قد شهدت مستويات تنسيق مرتفعة خلال العقود الماضية، وصولاً إلى اتهامات في تسعينيات القرن الماضي، تنفيها جميعاً، بأن الأجهزة الاستخباراتية في هذه الدول، التي يحظّر عليها مراقبة مواطنيها، وفق التشريعات الداخلية الصارمة، قد تعاونت لتجاوز الحظر بمراقبة مواطني “الشقيقات” ثم التبادل المنتج للمعلومات فيما بينها. الرد كان ولا يزال بأن الحاجة إلى هذه المناورات المزعومة منتفية، إذ بوسع كل جهاز الاستحصال من المؤسسات القضائية في بلاده على ما يحتاج إليه من أذون.
نيوزيلندا تعتمد منذ فترة غير وجيزة منحى سلميا في علاقاتها الخارجية، وتذهب باتجاه تحجيم العسكرة. لا عجب أن يكون “أوكس” قد استثنى نيوزيلندا، ولا عجب أن تكون رئيسة وزراء نيوزيلندا قد سارعت إلى التأكيد بأن الغواصات المتولّدة عن هذا التحالف الجديد غير مرحّب بها في المياه الإقليمية النيوزيلندية.
المصلحة العليا للولايات المتحدة، في مواجهة الصين، تقوم على ترميم الشراكة الأطلسية، وهذا ما كان ظاهراً في الخطوات المتعددة لإدارة الرئيس جو بايدن، ولا سيما في الزيارة التي قام بها وزير الخارجية أنطوني بلينكن في حزيران الماضي، نزيل باريس في سابق عهده والمتحدث بلغة فرنسية مقبولة، حين أكّد ضمناً وجهاراً، بأن زمن إهمال الحلفاء قد ولّى، وبأن دونالد ترامب حالة شاذة في تفريطه بهذه العلاقة العزيزة على الولايات المتحدة، حكومة وشعباً، إذ هي تعبير عن تلاقي في المصالح ووحدة في القيم.
هي حقيقة صادقة أن التحالف الأطلسي هو أقرب ما يكون إلى التوافق في المصالح والقيم على وجه الإجمال. غير أنه ثمة خلافات حقيقية بين واشنطن والعواصم الأوروبية بشأن التعامل مع كل من موسكو وبكين وطهران. جميع هذه الخلافات تتعلق بموازنة المصالح، وجميعها قابلة للتسوية، بل أن مواطن الخلاف توظّف أحياناً لخدمة الجانبين.
الولايات المتحدة انسحبت من الاتفاق مع إيران، لكنها بقيت ضمناً تعوّل على الاستمرار الأوروبي فيه لضبط التململ الإيراني وتجنب التصعيد. وبدورها كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا اعتمدت على حاجتها إلى عدم الإضرار بعلاقتها مع الولايات المتحدة لتفسير تلكؤها إزاء خطوات وعدت بها إيران.
ليس صحيحاً أن دونالد ترامب كان حالة شاذة في الإساءة إلى الحلفاء، وفرنسا بالتحديد. المسألة هنا ليست الخلاف الطويل الأمد بين الولايات المتحدة وفرنسا، في تمنّع هذه الأخيرة عن القبول بعلاقة غير ندية، منذ أيام شارل ديغول. ولا عدم تجاوب باريس مع رغبات واشنطن العسكرية، كما في الاعتراض على الحرب في العراق عام 2003. هذه قضايا مبدئية ومواقف سياسية يمكن لعلاقة التحالف أن تستوعبها دون الإضرار بالثقة أو بالقناعة بأن ما يجمع يفوق ما يفرّق.
ما تذكره باريس، ومعها العديد من العواصم الأوروبية، هو تفريط الرئيس الأسبق باراك أوباما بالأمن الوطني لهذه الدول حين قرّر إهمال المأساة السورية وتركها للشركاء المتنافسين، ولا سيما دول الخليج وتركيا، وما آلت إليه هذه المأساة من هجرة جماعية أعادت رسم الخارطة السياسية الداخلية في العديد من الدول الأوروبية، وأتاحت المجال لليمين الصلب لتعزيز مواقعه، بل قد تكون قد أسهمت في خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.
وربما الطامة الكبرى كانت في سلوك الحائز على جائزة نوبل للسلام، بطل الاستثنائية الأميركية، باراك أوباما، حيث أنه، بعد إشعار مرتفع النبرة بأن العقاب قادم لارتكاب النظام القاتل في دمشق مجزرة بالسلاح الكيماوي، وبعد اصطفاف كل من لندن وباريس تأييداً للعقاب وتحضيرهما لسلاحهما الجوي استعدادً للضربة المرتقبة، تنزّه أوباما اللطيف باتجاه موسكو، فتوافق معها على مقايضة التخلي عن قرار المعاقبة بوعود أن تشرف روسيا على ضبط سلاح الجريمة، أي لا عقاب ولا من يحزنون، مفاجئاً حلفائه بأدائه الفذّ.
هل كان بوسع أوباما الاتصال بالفرنسيين والبريطانيين ليعملوا على تخفيض التوقعات داخلياً كي لا يظهروا بمظهر الغافل عن قرار “الكبار”؟ طبعاً، ولكنه لم يفعل، جهلاً أو غروراً لا فرق.
واليوم يعاود رئيس أميركي آخر الكرّة. هل كان بوسع جو بايدن تنبيه الفرنسيين إلى حاجته الشروع بـ “أوكس”، ومفاوضتهم حول كيفية التعويض عن خسارتهم المالية، أو مقايضتهم بمصالح لهم في مواقع أخرى؟ طبعاً، ولكنه كذلك لم يفعل. لماذا؟ قد يسعى البعض إلى قراءات متعمقة للرؤى والمصالح البعيدة المدى للولايات المتحدة. على أن الأقرب للصواب، من وجهة نظر من يتابع أداء الإدارات المتعاقبة وأجهزة الحكومة في واشنطن، أن الأمر يندرج في إطار الإهمال وقصر النظر، وإذا كان ثمة رغبات كيدية، فهي لدى بعض الموظفين في بعض الدوائر هنا وهنالك، ارتقت بفعل الإسراع والتسرع إلى مستوى القرار. ومن المبالغة افتراض أكثر من ذلك.
ما حدث يضرّ موضوعياً بالمصلحة الأميركية العليا. لا فائدة أبداً من استعداء حليف بحجم فرنسا. وإذا كان ترامب الرئيس السابق لا يعبأ بضرر من هذا النوع خدمة لمصلحة انتخابية ضيقة، فإن الاشتباه بأن جو بايدن يعمد إلى توظيف الإساءة لفرنسا للظهور بمظهر القادر على الإهانة، كما كان يطيب لترامب أن يفعل، مستبعد جداً من حيث الحسابات الموضوعية.
هي هفوة أميركياً، ولكنها إساءة كبيرة فرنسياً، تتطلب جهود تصحيح كبيرة، وتكشف مجدداً أن الولايات المتحدة بعيدة كل البعد عن مقام الإله المتحكم بكامل التفاصيل، وهو الدور الذي يرتئيه لها بعض خصومها. أما من يأمل بأن يكون هنا انفراط عقد التحالف الغربي ونهاية الزمن الأميركي، فلا شك أن عليه التحلي بالصبر الجميل، إذ تعددت أسباب هذا الأمل على مدى الأعوام وبقيت نتيجته واحدة.