بقلم: د. منار الشوربجي – صحيفة “البيان”
الشرق اليوم – وقائع متلاحقة، دلالاتها تشير إلى انحسار الدور الإمبراطوري الأمريكي في العالم. ففي زيارتها الأخيرة لآسيا، كانت نائبة الرئيس الأمريكي، كاملا هاريس، في طريقها لفيتنام، حاملة في جعبتها منحة قدرها مليون جرعة من لقاح فيروس «كورونا» المستجد.
لكن رحلة نائبة الرئيس تأخرت عن موعدها لدواعي «كورونا»، فما كان من الصين إلا أن أرسلت دبلوماسييها على عجل، للقاء رئيس الوزراء الفيتنامي، وقدمت 2 مليون جرعة من اللقاح لبلاده.
وقد حملت الواقعة دلالة رمزية، لا تخطئها العين، تجسد بوضوح انحسار النفوذ الأمريكي. فزيارة هاريس لآسيا، كان هدفها الرئيس، هو حشد دول آسيا الصديقة لتطويق نفوذ الصين عموماً، وفي بحر الصين على وجه الخصوص. لكن رئيس الوزراء الفيتنامي، بعد أن وجّه شكره للصين، رفض صراحة ما جاءت كاملا هاريس لبلاده من أجله. فهو قال إن بلاده «لا تتحالف مع دولة لمحاربة أخرى».
وهو الأمر الذي وضع تصريحات هاريس في سنغافورة، في سياق مختلف بالمرة، وصار يستحق التأمل. ففي لقائها برئيس الوزراء السنغافوري، قالت نائبة الرئيس الأمريكي، إن سبب زيارتها للمنطقة «أن الولايات المتحدة زعيمة عالمية، وأننا جادون في لعب هذا الدور».
وحين هاجمت هاريس نفوذ الصين في بحر الصين الجنوبي، وهو ما رفضه فوراً وزير الخارجية الصيني، واصفاً وجود أمريكا فيه «بالتدخل في الشؤون الإقليمية، يؤدي للحيلولة دون السلام والاستقرار». فالواضح من جولة نائبة الرئيس الأمريكي، أن دول المنطقة، بما فيها التي تخشى نفوذ الصين، ليست كلها مستعدة للدخول في حلف مع أمريكا ضدها.
أما الواقعة الثانية، فكانت كلمات الرئيس بايدن في أول خطبة بخصوص الانسحاب الأمريكي من أفغانستان. ففي ذلك الخطاب، قال الرئيس الأمريكي إن أفغانستان «عُرفت عبر التاريخ بأنها مقبرة الإمبراطوريات».
وهو تصريح له دلالته المهمة، فلأن قوى كثيرة بالولايات المتحدة، لم تمانع من وصف بلادها علناً «بالإمبراطورية»، فإن التصريح، في تقديري، مثّل، وربما دون قصد، اعترافاً بحال الإمبراطورية الأمريكية. وبايدن اعترف مؤخراً بأن قرار الانسحاب كان البديل الوحيد لإرسال عشرات الآلاف من القوات الأمريكية من جديد.
فقرار ترامب، الذي أعلن فيه انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان في موعد أقصاه أول مايو الماضي، كان بمثابة قيد سياسي وعسكري على من يخلفه، لا يمكنه إلا تأجيله لشهور قليلة، لئلا يستثير القوى الأفغانية، وعلى رأسها طالبان، التي انتظرت بفارغ الصبر رحيل الولايات المتحدة.
إلا أن إدارة بايدن، كانت قد شرعت في الانسحاب فعلاً، بناء على إدراك رموزها لحجم الفشل الأمريكي في أفغانستان، على مدى عشرين عاماً. فبايدن شخصياً، الذي أيد الغزو، حين كان عضواً بمجلس الشيوخ، بل وظل يؤيد وجود القوات الأمريكية لسنوات طويلة، كان قد تراجع عن ذلك الموقف، حين صار نائباً لأوباما، وعارض، وقتها، إرسال الأخير لمزيد من القوات لأفغانستان.
غير أن الوقائع الأهم على الإطلاق، هي الجارية الآن داخل أمريكا نفسها. فلعل ردود أفعال النخبة تجاه قرار الانسحاب وتوابعه، وكل ما تلاه من قرارات لإدارة بايدن، هي المؤشر الأهم على انحسار القوة الأمريكية.
فالجمهوريون داخل الكونغرس وخارجه، الذين أيدوا بقوة قرار ترامب بالانسحاب، ودافعوا عنه، هم أنفسهم الذين يهاجمون قرار بايدن، بل ودعا بعضهم لاستقالته، بعد التفجير الإرهابي الذي طال محيط مطار كابول.
وهذه المواقف ذات دلالة خطيرة، إذ معناها إضفاء الطابع الحزبي على قضايا الأمن القومى. فالاستقطاب الأمريكي وصل لمستويات غير مسبوقة، جعلت كل القضايا ذات طابع حزبي. والفارق شاسع بين ما هو سياسي وما هو حزبي. فمن الطبيعي أن تكون قضايا الأمن القومي ذات طابع سياسي.
لكن الطابع الحزبي هو مكمن الخطورة، لأنه يجعل اتخاذ قرارات الأمن القومى، لا تتم على أساس الرؤى المتباينة للمصلحة الأمريكية، وإنما المصالح الحزبية. ومن هنا، يكون الانقسام الداخلي والاستقطاب السياسي، في تقديري، هو أقصر الطرق نحو انهيار الإمبراطوريات وانحسار قوة الأمم ونفوذها الدولي.