بقلم: عبد المنعم سعيد – المصري اليوم
الشرق اليوم – التاريخ البشري مر بأحداث كثيرة تظل راسخة في أذهان البشر لأهميتها في حياة الإنسان أو الدول أو مناطق جغرافية بعينها، ولكن حفنة منها هي التي مثلت «نقطة تحول»، أو كما يقال لا يصير العالم بعدها كما كان قبلها. تتغير الحياة وأنماطها وممارساتها، وينتقل البشر، كما يقال أيضا، من «معتاد» إلى «معتاد جديد» يفرض تقاليده وعاداته وممارساته.
وفي أحيان كثيرة لا يخلو الحدث من كثير العجب، ومن بينها أن حدثا له هذا التأثير جاء من الهجمات الجوية التي جرت في هذا اليوم الأغبر، والتي قامت بها أربع طائرات «مدنية» بتفجيرات في نيويورك وواشنطن ومزرعة في ولاية بنسلفانيا، نجم عنها تدمير بما يقدر بالمليارات، ومن البشر ما هو أكثر من ٣٠٠٠ قتيل. لم يكن في الحساب أن تقوم طائرات مدنية بكل هذا التدمير، أو أن كلفة هذه العمليات الإرهابية كلها لم تزد على ٢٠٠ ألف دولار. وتمدد العجب أكثر عندما عرف من قام بالعمل الإرهابي، فإذا به لا ينتمي، بأي شكل، للعداوات «الدولية» التي تعرفها الولايات المتحدة والعالم، ولم يأت الهجوم لا من دولة عظمى أخرى، ولا من دولة بينها وبين الأمريكيين عداوة أو حسد.
جاء الهجوم مما بات مصطلحا عليه بين علماء السياسة من «فاعل غير الدولة أو non-state actor»، وهو مفهوم جرى استخدامه لكي يصف كيانا مؤثرا في علاقات الدول، مثل المنظمات الدولية أو الشركات متعددة الجنسية، وكلها لا تعتمد في التأثير إلا على أدوات سياسية واقتصادية، أما تفجير مركبات سلمية مدنية لكي تقوم بما تقوم به الأسلحة، وعلى مدى هذا النطاق، فقد كان أمرا جديدا فتح الباب لحرب عالمية أخرى باتت معروفة بالحرب ضد الإرهاب. كانت الحرب جديدة على كل الدول، وجاءت من استخدام تنظيمات لأدوات للعنف، وذات طبيعة عالمية عابرة للقوميات، وتتجاوز الحدود المعروفة للدول بفعل المشاركة في منظمات دولية أو تتحمل مسؤوليات «القانون الدولي».
مرور عشرين عاما على الحدث لم تكن ذكرياته صورا من الماضي، أو من اكتشاف ملفات جديدة لم تكتشف بعد، وإنما كان رؤية الحرب وهي تصل إلى مفصل جديد تمثل في الخروج الأمريكي من أفغانستان. انتهى فصل مهم من فصول الحرب، ومسرح من مسارح العمليات، ولكنه قدم من الدراما والتراجيديا ما يشير إلى حرب مستمرة ربما تشاهد منعطفا جديدا، ولكنها شهادة بالدوام لأن تنظيم القاعدة لايزال موجودا، وخرج قائده أيمن الظواهري من الظلام لكي يؤكد على أنه حي، وكانت طالبان التي تؤوي وتحتضن هي التي دخلت كابول، بينما تقوم داعش (خراسان هذه المرة) بالمناوأة، ونجل شاه مسعود، قائد التحالف الشمالي، بالمقاومة. وبينما الساحة بتعقيداتها الجديدة/ القديمة تطل على الولايات المتحدة والعالم، فإن المنصات الفكرية العالمية لم تتوقف عن التنظير لما جرى.
مجلس الشؤون الخارجية الأمريكي أطلق عددا خاصا من دوريته ذائعة الصيت «شؤون خارجية» بعنوان «TheLegacyof 9/11» كيف غيرت الحرب على الإرهاب أمريكا والعالم؟ أعادت فيه نشر مقالات مهمة على مدى العقدين، والتي تفيد كيف تطور الفكر الأمريكي خلال هذه الفترة. في البداية كانت المقالات دفاعية تبحث في كيف يمكن منع ما حدث من الحدوث مرة أخرى، حيث كانت تصورات التهديد قد وصلت إلى أنه إذا كان العجب حدث على هذه الصورة، فما الذي يمنع من امتداد العمليات الإرهابية إلى آفاق كيميائية أو بيولوجية أو نووية. ولكن سرعان ما امتد الاهتمام للتعريف بالخصم الجديد والذي امتد من فهم شخص (أسامة بن لادن) إلى تنظيم (القاعدة ومن جاء بعدها) إلى تيار عالمي راديكالي يستند إلى دين، ويحلم بخلافة عالمية.
وكان السؤال ضروريا عما إذا كانت الظاهرة تقع فى نطاق القانون الدولي أو لا، وعندما حصل الجمع على ثروة كبيرة من المعلومات بعدما تم قتل أسامة بن لادن (كشفت المخابرات المركزية الأمريكية في ٢٠١٧ عن ٤٧٠ ألف ملف إلكتروني منها)، وجاء ذلك في إطار من نقلة جديدة ترتبت على ما جاء من رد الفعل الأمريكي والغربي بغزو أفغانستان والعراق، ومواجهة أشكال جديدة من العنف. ظهر أن حسابات توازنات القوى لا تفيد كثيرا في التعامل مع قوى تتعامل باحتراف شديد مع سلعة الخوف. وبينما كان ممكنا غزو دول، وإسقاط نظم سياسية، فإن القضاء على الإرهاب ظل عصيا، حتى غلب الاتجاه الذي يرى ضرورة نشر الديمقراطية وتغيير شعوب وتقاليد.
الأدب المنشور عن ذلك يعود باستمرار إلى جماعة «القرن الأمريكي الجديد» ممن عرفوا بالمحافظين الجدد الذين صاحبوا الرئيس جورج بوش الابن إلى السلطة والذين نقلوا الحرب من أفغانستان إلى العراق بالادعاء الكاذب عن وجود الأسلحة النووية. بات غياب الديمقراطية هو الذريعة، وفي الدوائر الهامسة لواشنطن العاصمة كان القول إن الهدف ليس فقط بغداد، وإنما الرياض والقاهرة. كان ذلك امتدادا للقوة الأمريكية بأكبر مما تستطيع، وكانت النتائج أكثر كارثية مما كان مقدرا، ولم يكن ذلك تجاه الولايات المتحدة وحدها، وإنما كان أكثر ثقلا على الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.
فرغم كل الحسابات عن العمليات الإرهابية وأعداد القتلى التي نتجت عنها، ومدى البشاعة التي صاحبتها، فإنه وفقا لكل المراجع عن الإرهاب فإن ٩٥٪ من الخسائر وقعت على العرب والمسلمين، ولم يكن سببها لا الفقر ولا البحث عن الديمقراطية، وإنما كانت أيديولوجيات دينية متطرفة. التحمت الجماعات الإرهابية بطبعاتها وأسمائها المختلفة بموجات ما سمي «الربيع العربي» لكي تولد حروب أهلية، وبلدان خربة ومنهارة، وعدم استقرار إقليمي يقاوم التنمية والبناء. لم يكن العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين رحيما بالمنطقة، ولايزال الإقليم كله يعاني من آثاره المخيفة.
«زمن ١١ سبتمبر ٢٠٠١» وصل إلى مصر بعد عشر سنوات عندما جرت على أرض المحروسة «جمعة قندهار» الشهيرة التي خلدت سمعة قندهار الأفغانية لكي تمد زمنا بدأ فى نيويورك وامتد إلى القاهرة. ما كان «دعوة» صار إرهابا له صلاته الدولية التي وجدت مستمعين لها في مراكز البحث الأمريكية. كانت المفارقة مخيفة أن أمريكا تحارب الإرهاب في العراق وأفغانستان وسوريا، ولكنها لم تجد بأسا من الاستعانة والاستضافة في واشنطن ولندن لجماعة الإخوان، وتجعلهم ضحية للاستبداد الذي بات يتحمل ثمن المقاومة للإرهاب.
لحسن الحظ أن مصر خطت الخطوة الأولى في النصر على الإرهاب ساعة الإطاحة بحكم الإخوان في ٢٠١٣، وصاحبته بخطوات تالية للإصلاح واسع النطاق، وهو توجه نجده الآن يندفع بقوة كبيرة في العديد من الدول العربية، وسواء كان ذلك بالقوة الشعبية، كما حدث في مصر والسودان ومؤخرا في تونس والآن في المغرب. هل يمكن لأمريكا فهم هذا الزمن الجديد؟