بقلم: جمعة بوكليب – الشرق الأوسط
الشرق اليوم – قبل اعتلائها كرسي المستشارية عام 2005 عُرفَ عن الناخبين الألمان، في الانتخابات النيابية، عزوفهم عن الإدلاء بأصواتهم لأشخاص، وحرصهم على التصويت لأحزاب.
طبيعة النظام السياسي الألماني، ونظامه الانتخابي القائم على مبدأ التمثيل التناسبي (Proportional Representation) حتّم عدم انفراد حزب بالسلطة، بجعل الحكم ائتلافياً. وبعد وصولها إلى قيادة ألمانيا، تغيّر الحال. وصارت شخصية المستشارة أنجيلا ميركل الحصان الرابح، من قاد المحافظين الألمان، ممثلين في الحزب الديمقراطي المسيحي إلى السلطة أربع مرات متتالية.
السيدة القادمة من ألمانيا الشرقية، بعد تحطيم جدار برلين وتوحيد ألمانيا، في بداية التسعينات من القرن الماضي، تحولت، خلال ستة عشر عاماً من الحكم، إلى أيقونة سياسية ألمانية، طال تأثيرها الساحة الدولية. يقول مثل شعبي إسباني: «المصارع الجيد يغادر الحلبة قبل أن تنطحه الثيران». ربما لذات السبب، قررت السيدة ميركل بمحض إرادتها، وفي أوج مجدها السياسي، العمل بتلك الحكمة الإسبانية.
في الانتخابات البرلمانية القادمة يوم 26 سبتمبر (أيلول) الجاري، لن يكون اسمها ضمن قائمة أسماء المتنافسين. وقد لا يكون مهماً اسم مَن سيجلس بعدها على كرسي المستشارية في السنوات الأربع القادمة، ومن أي الأحزاب، لكن هل سيتمكن من ملء كرسي المستشارية بجدارة كما كانت تفعل هي، وهل سينجح في الحفاظ على ما أنجزته لألمانيا، والمراكمة عليه؟ وقد يكون السؤال الأهمّ: هل سنكون شهوداً على مرحلة سياسية جديدة في ألمانيا، مثل تلك التي حدثت في بريطانيا بعد خروج السيدة مارغريت تاتشر من المسرح؟
المتابعة للحملات الانتخابية الجارية لمختلف الأحزاب، برصد ما يُنشر حولها من تقارير في وسائل الإعلام الأنجلو – أميركية بشكل خاص، تشير إلى أن مرشح حزب المستشارة ميركل السيد أرمين لاشيت، قد لا يواتيه الحظ في شغر كرسي المستشارية، وقيادة الائتلاف الحاكم القادم، وفقاً لنتائج استبيانات الرأي العام الصادرة في ألمانيا.
التقارير كذلك تشير إلى تصاعد ملحوظ في حظوظ منافسه السيد أولاف شولتز، مرشح الحزب الاشتراكي. نتائج الاستبيانات الأخيرة تؤكد تقدمه على منافسه لاشيت بنسبة 6 نقاط. التراجع في نسبة شعبية الديمقراطيين المسيحيين اضطر السيدة ميركل إلى الانضمام لقطار الحملة الانتخابية، بعد أن أعلنت في السابق عن نيتها في عدم تدخلها في السباق. للضرورة أحكام بالطبع. وفي الواقع، فإن الحذاء الذي انتعلته لسنوات طويلة وقررت خلعه مؤخراً، سيكون كبيراً، من دون شك، على مقاس قدمي مَن سيخلفها. الناخبون والمعلقون السياسيون الألمان على السواء يعرفون ذلك. ويعرفون أيضاً أن المركب الألماني سيتعرض لهزّات عنيفة في غيابها، قبل أن يتمكن الربّان الجديد من السيطرة على دفته، مثلما حدث لنظيره البريطاني، بعد أن قام المحافظون بالتخلص من السيدة تاتشر، وطالهم العقاب على ذلك الفعل، عقب سنوات قليلة، على يدي توني بلير وحزبه العمالي الجديد عام 1997، وذاقوا مرارة العيش على مقاعد المعارضة خمس عشرة سنة متلاحقة.
الجدير بالذكر والمقارنة أن السيدتين تاتشر وميركل لم تدرسا علم السياسة أو الفلسفة أو القانون أو الاقتصاد، مثل أغلبية السياسيين، بل درستا العلوم التطبيقية. السيدة تاتشر درست الكيمياء في جامعة أكسفورد. لكنها ندمت فيما بعد على ذلك، حين اعترفت مرّة بأنها تمنّت لو درست القانون، حتى تتهيأ بشكل أفضل للعمل في السياسة، التي شغفت بها مبكراً. لكن السيدة ميركل تميزت بمواصلة دراستها العليا إلى حين حصولها على شهادة الدكتوراه في كيمياء الكم (Quantum Chemistry). الاثنتان جاءتا من خلفية اجتماعية تكاد تكون متشابهة، ومحافظتان، حظيتا بثقة الناخبين في بلديهما. السيدة تاتشر قادت المحافظين إلى ثلاث نجاحات انتخابية هائلة، وجلست في مقعد القيادة لمدة أحد عشر عاماً من دون منافس، وصارت علماً على مرحلة مهمة في التاريخ البريطاني المعاصر، ما زالت آثارها ملحوظة حتى اليوم. وميركل قادت الديمقراطيين المسيحيين إلى الفوز بأربعة انتخابات، وسيطرت على مقاليد الساحة السياسية الألمانية، من دون منافس، لمدة ستة عشر عاماً. وأتوقع أن تظل تأثيرات مرحلة السيدة ميركل قائمة لفترة زمنية طويلة مستقبلاً. ما يفرقهما اختلاف في الجوهر والأسلوب: تاتشر امرأة حديدية لا تلين ولا تتراجع، ودرامية، بينما السيدة ميركل متسقة ومتواضعة. آمنت تاتشر بالحرية الاقتصادية للفرد، وصرّحت علناً بعدم وجود مجتمع، وتخلصت من الممتلكات العامة ببيعها للقطاع الخاص، وشنت حرباً ضروساً ضد الجامعات، وحرمتها من نسبة كبيرة من التمويل المخصص للبحوث. ولذلك، وعلى عكس العادة المتّبعة مع رؤساء الحكومات البريطانيين، رفضت الجامعات البريطانية في عام 1985 منحها شهادة الدكتوراه الفخرية. في حين أن ميركل ترأست دولة كانت تنفق ثلث ميزانيتها على التعليم، وبعينين راعيتين للفقراء وحريصتين على توفير احتياجاتهم، وتمكنت من تحويل ألمانيا إلى قوة اقتصادية هائلة عالمياً. السيدة تاتشر دُفعت خارج السلطة، ولدى سقوطها من القمة، تنفست أوروبا الصعداء ارتياحاً. السيدة ميركل غادرت المسرح طواعيةً، وبخروجها خسرت أوروبا والعالم قائداً ملهماً.